البناء الطيني.. الأثر الميت الحي .. ذاكرات متجاورة .. وهندسات تصارع الامّحاء

مدخل
تأخذ تفاصيل المكان مساحة واسعة في الحضور البصري المباشر الذي يتعايش معه الإنسان بشكل يومي ، سواء كان يعود إلى الذاكرة، أو كان متجددا ومواكبا مختلف التحولات التي تطال المكان، وهي جميعها عناصر مهمة في التفاعل مع ما يمكن للنقد الثقافي أن ينجزه ويراه بعين المتأمل من ناحية، وبشفافية الدراسة والتحليل من ناحية ثانية، وهذا يصبّ في مصلحة المرئيات التي يمكن أن تسفر عنها المسارات التي ستجد القراءة الثقافية مناخات جمة تستحق الالتفات إليها.
واحدة من العناصر التي نظنها مهمة في البنية المكانية هي البيوت الطينية، التي صارت - مع الوقت - أشبه بعبء يسهل التخلص منه، وهو ما يعني تقويض مرحلة وحيوات ومواطن وذاكرات ومناخات، هي في الأساس جذر كان ينبغي التعاطي معه قبل تحويله إلى أنقاض، وقبل اختفائه ليصير أثرا بعد عين.
لا نقصد هنا البناء الطيني الاستثنائي ذا الوظائف المعلومة والمشبعة دراسة وترميما وحفظا وتكريسا، بل نقصد البسيط المهمل، الذي لم يبق منه سوى جدرانه، والذي انقض عليه الصمت، وفتكت به العزلة، وانزوى في ركن قصيّ من النسيان، وتم استبدال ما فيه بالجديد الذي ينفصل تماما عنه ويقصيه.

المطر والمدر
غالبا ما تكون البيوت الطينية الخالصة، التي تعتمد على المَدَر والَمطَر، مختلفة في تكوينها عن تلك التي تخلط بين الطين والحجر، وهي ذات خاصيات مناخية، وتشكل وهجا معرفيا خالصا بها، وطرائق حياة تستكنّ بين جدرانها، وهي المساحة التي لم يَرَها ويَعِها سوى من عاشها حقا، طفولة وشبابا ورجولة وكهولة، أي تسربت في تفاصيل مراحله العمرية، بحيث باتت جزءا من تركيبته الإنسانية اليومية، ولكن لم تكن لديهم الوسائل التي تجعلهم يشرحون ويعبرون عن تلك الحياة .
بيوت الطين في الجغرافيا التي تشمل الواحات والسهول ومناطق مرور الوديان، تدين للمَطَر والمَدَر على حد سواء، باعتبار أنهما العنصران اللذان يفتحان الباب لغايات حياتية ومعيشية ذات سمة استقرارية، وتنقل المكان من مستوى مجتمعي إلى آخر، وتدفع بالتفاصيل اليومية إلى التشكل نحو ما هو مختلف ومستحدث.
في (المسيلة) أو (الوادي) أو (البطحا) ، عندما تهطل الأمطار على أعالي الجبال، لتسيل على إثرها الشعاب من كل حدب وصوب، ثم تجتمع في مصبّ واحد، مشكّلة كرنفالا ضخما هادرا من المياه التي تخلط في لونها بين التراب والغبار، متخذة من لون الطين شخصية محددة الملامح، تعبر الأماكن الضيقة والواسعة، متجهة صوب البحر، حيث ستلقي حمولة ثقيلة من كل ما تمكنت من أخذه على طول المسافة التي قطعتها، والتي تصل إلى عشرات الكيلومترات.
حصاد الإنسان العماني يأتي بعد يباس المجرى، وتحول الطين الرخو واللزج إلى كتل يابسة تشبه محاجر العيون الناظرة إلى السماء، حيث يتم جمعها وحملها نحو المناطق السكنية، وهناك يبدأ التفتيت ، ثم الخلط مع المياه، لصنع (التول) ، تمهيدا لصنع المنزل الذي سيكون نقلة نوعية في شكل مكان السكنى لأصحابه.
إذن هناك صلة مهمة بين ما ينتج عن جريان الأودية من ناحية، واتكاء العماني على ما رآه قابلا للتحول إلى مفيد ونفعي بصيغة نوعية من ناحية ثانية، لأنه سيحدث نقلة ما ، وسيوفر مساحة إبداعية ابتكارية للعديد من النماذج المجتمعية في المكان الواحد .
ما يهم القراءة الثقافية المفترضة هو هذه الصلة المتشكلة، والقنوات الذهنية والسلوكية التي تحصل وتتشكل، والمناخ العام الذي يوفره ذلك السلوك الطبيعي الناشئ عن المَطَر والمَدَر، بما يعنيه ذلك من تحليل لتلك المرحلة بكل تفصيل مرتبط بها، وهو جزء لم يحظ بما يستحقه من إعادة الفهم البشري في تلك الظروف، قبلها وأثناءها وبعدها.

مهنة وهندسة

تندرج تحت يافطة البيت الطيني في السلطنة العديد من التفاصيل، مثل: الحياة الاجتماعية ، وعلاقتها بفصلي الشتاء والصيف، والصلة بين خواص الطين ومرونة الحياة اليومية، والتحول الذي طرأ على شكل المعاناة مع عوامل الطقس والتعرية، وغيرها من الأمور، لكن يعنينا هنا الجانب المتصل بالمهن والهندسة التكوينية لهذه البيوت، المخيلة الإبداعية لدى مهندسيها وبناتها، بداية من المهندس المشرف (الوستاد)، مرورا بعُمال صنع (التول) أو قوالب الطين، وقوفا عند (البَنّايين) الذين يقومون بتنفيذ التكوين الهندسي العام للبيت ، والمكونة عادة من : ليوان، سبلة سْطار، دِكّان / غرفة صغيرة، مخزن التمور / البَخّار، خلافا لما يمكن أن يضيفه مالك البيت، بحسب بَسْطته في المال واليسر، أو بالتعبير الدارج (هَنقري/هنجري).
هذه الصيغة الهندسية بتشابكها مع فريق العمل، وبالذاكرة الهندسية الرائجة أو المبتكرة بحسب طلب المالك أو الزبون، هي التي من خلالها سيتم فهم البيئة المكانية في صلتها ببيوت الطين، بما يتبع ذلك من آلية عمل واتفاق ومدة إنجاز، وبما يحيل إليه ذلك من جودة ومتانة وصلابة في وجه الظروف، مرورا بالعمر الافتراضي لكل بيت ، وقوفا عند العقود البنائية في هذا الشأن ، والأجور التي يتم تقاضيها، هذه العموميات التي تختزن تفاصيل مهمة للغاية، بل يمكن أن تشكل مرجعية مهمة للمبدعين والباحثين على حد سواء، هو الاشتغال الغائب للنقد والقراءة الثقافيتين، اللتين لا أجد لهما حضورا في الصيغ والاشتغالات الكتابية، لأن الواضح والجلي هو ميل الفن التشكيلي إلى التعاطي معها بصفتها بيئة صامتة، تغري الرسام من زاوية اللون ودهشة الصلابة في وجه التغيرات التي تطال المكان، ولكنها ليست بالعمق الذي تتركه في عيون من يراها، في شقها التاريخي ، الذي من المفترض أن يتضامن مع الجمالي.
من الضروري أن يكون هناك اشتغال مرتبط بواقع ما كان عليه الوضع في ثقافة المكان المرتكز وجودها على الطين، وهو الدأب المفترض لدى الباحثين الثقافيين على مستوى طلبة كليات الآداب والعلوم الاجتماعية، أو الباحثين المستقلين الذين لديهم محفزات جمة للتعاطي مع المكان في صيغته الطينية، فضلا عن انعكاسها على حياة الإنسان العماني الذي كابد تحولات شتى بين السعف والطين مرورا بالإسمنت .

ذاكرات متجاورة
في بعض الجغرافيات العمانية، تتجاور الكائنات الثلاثة، السعف والطين والإسمنت، باعتبارها مكونات سكنية ذات هندسات مختلفة، عبّر كل منها عن مرحلة من المراحل التي مر بها الإنسان على أرض السلطنة، أزاح بعضها الآخر، وبقي الذي ينتمي إلى المرحلة وفقا لمتطلبات التطور في مسيرة التحول البشري بشكل عام .
ما يلفت النظر في هذا الالتقاء، هو أن المساحة الزمنية التي تحتوي التفاصيل الدقيقة التي نزعم أنها مهمة وضرورية لإجراء قراءة ثقافية ملهمة وجذرية وعميقة للمكان والإنسان معا، لم تتحقق، وإذا حصل وظهر جهد ما هنا أو هناك، لن يكتب له أن يجد مساحة حوار أو حضور أو دعم، على الرغم من أن ما نشعر أنه غير مهم اليوم، سيغدو ضروريا وملفتا في أزمنة لاحقة لأجيال من نوع مختلف.
هذا التجاور من المهم أن يثير حوارية بحثية، ولكن الحاصل هو أن الأجيال في هروبها مما كانت عليه، وانغماسها في ما صارت إليه، يحتاج إلى إعادة توازن بحثي ، متصل بتجذير المعرفة وتكريس البعد الثقافي الذي أسبغه المكان على إنسانه الذي نحن امتداد له، وهذا لن يحصل في ظل قطيعة بيّنة، وخصدوع تتزايد يوما بعد يوم، وعاما بعد عام ، وعقدا بعد عقد، ولن يرأب هذه الصدوع سوى ما يضيء مكامنه النقد الثقافي، الذي ندعو إليه.

عبدالله الشعيبي