لم نكن بحارة تائهين، ولا عبرت مراكبنا عباب المحيط لنصل إلى وجهتنا، ولا رسمنا صورة متخيلة للأرض التي سنطؤها في رحلتنا هذه، فقد كانت الصورة واضحة أمامنا والمقصد محددا، وجزر القمر بدت أقرب إلينا من قربها من الرحالة الأوائل الذين سكنت سفنهم شواطئها أول مرة.. قريبة وإن طال المسير إليها، وابتلعتنا الطائرات من مطار إلى آخر، قريبة وإن تناسينا يوما أنها جزء من وطننا العربي.

نظرت إلى تذكرة الطيران التي ستقودني إلى موروني عاصمة جمهورية القمر المتحدة وأكبر مدن الأرخبيل، ومسارات الرحلة التي ستأخذني من مسقط إلى دبي، ثم إلى نيروبي فجزيرة مايوت أو ماهوري، قبل أن نحط الرحال في أقصى دولة جنوبية في الوطن العربي.
كان طول الرحلة يغري باصطحاب كتاب، يكون رفيقا على مقاعد الطائرة، وفي استراحة المطار، ومؤنسا من وعثاء السفر، وضجر المسافات المتباعدة، وملهما لمعرفة الأرض التي نيمم وجوهنا شطرها، والاقتراب منها تاريخيا وجغرافيا وثقافيا.. ولذلك لم أجد خيرا من كتاب "أيامنا في القمر" الذي يوثق فعاليات الأيام الثقافية العُمانية القمرية، التي نظمت من قبل مركز الخليل بن أحمد الفراهيدي للدراسات العربية في جامعة نزوى، ومكتبة الندوة الأهلية، ومؤسسة بيت الغشام، في يونيو 2013م.
تأملت الوجوه التي ستصحبني في الرحلة، من الأصدقاء الذين سبق لي السفر معهم، وأصدقاء جدد، وكلهم من الإعلاميين الذين سيشاركون في تغطية أحداث المؤتمر الدولي الخامس "علاقات عُمان بدول القرن الإفريقي"، الذي تنظمه هيئة الوثائق والمحفوظات الوطنية بالتعاون‭ ‬مع‭ ‬وزارة‭ ‬الشؤون‭ ‬الخارجية‭ ‬والتعاون‭ ‬الدولي‭ ‬بجمهورية‭ ‬القمر‭ ‬المتحدة، خلال الفترة من 6 إلى 8 ديسمبر2016م، بمقر‭ ‬البرلمان‭ ‬الإتحادي.
ترافقنا في الرحلة أنا والأصدقاء محمد المرجبي وراشد السعدي ومدرين المكتومي وطلال المعمري وسعيد الهاشمي وسيف المعولي، وأيضا حمود الطوقي وسالم الجهوري، فيما لحق بنا في رحلة تالية، الصديق عاصم الشيدي، ووفاء البلوشي، وتقدمت في رحلة سابقة عايدة الزدجالي.
كنا خليطا متنوعا من الأصدقاء وزملاء المهنة، وتوليفة جميلة تبهج الرحلة إلى القارة الأفريقية، سيما وأن معنا موسوعة إعلامية، خبرت جزر القمر وما حولها من دول القرن الأفريقي وشرقه، عبر أفلام وبرامج وثائقية قدمها من هناك، ولذلك لم يخيب محمد المرجبي "المذيع التلفزيوني" الظن به، فقد راح يعطينا المعلومات الوافية التي نحتاجها في هكذا سفر، وعن أحوال الناس في جزر القمر، وانطباعاته ومشاهداته.
وكان من حسن الطالع أن يعرض تلفزيون سلطنة عُمان في تلك الليلة، الفيلم الوثائقي جزر القمر "موروني"، وقد شوقنا محمد المرجبي الذي قام بإعداد وتقديم الفيلم إليه، حد أننا تسمرنا في مطار دبي ـ خلال فترة استبدال الطائرة ـ على هواتفنا نتابع ما تيسر من مشاهد الفيلم، عبر موقع تلفزيون سلطنة عُمان في الأنترنت.
وبين مشاهد الفيلم، راح المرجبي يعطي تفاصيل أكثر عن الأحداث، والعادات والتقاليد المتبعة في جزيرة موروني، وأخبرنا عن الصعوبات التي واجهها إبان تصوير الفيلم، والمواقف الطريفة التي صاحبته، كتلك التي وجد نفسه فيها عريسا لفتاة قمرية، وظهر هذا المشهد الطريف في الفيلم.. وتندرنا عليه، ونحن نشاهده عريسا قمريا.
في مطار دبي.. انتظرنا أربع ساعات تقريبا حتى موعد إقلاع الطائرة الكينية إلى نيروبي، تحلقنا فيها حول هواتفنا تارة، وتسامرنا في الحديث تارة أخرى، كانت جزر القمر الحاضر الأبرز بيننا.
في الطائرة الكينية لم ننشغل بالحديث أو القراءة أو حتى متابعة فيلم من الأفلام التي تعرضها شركات الطيران في رحلاتها الطويلة، فقد راح أغلبنا في نوم عميق، لم يصحُ البعض منه، إلا حينما لامست عجلات الطائرة مطار نيروبي، حيث الانتظار الآخر هناك، وقد تجاوز الأربع ساعات أيضا، ثم حلقنا مجددا إلى المحطة الثالثة في الطريق إلى موروني، والتي كانت جزيرة مايوت.
كانت مايوت جزيرة خضراء، والطقس بدا فيها بديعا، لكن مضيفة الطيران منعتنا حتى من ملامسة هواء الجزيرة، وتنسم عبقها، اكتفينا برؤيتها عبر نافذة الطائرة وهي تربض على مدرجات المطار بانتظار المسافرين الذين ستقلهم إلى محطة سفر تالية، غير أن محمد المرجبي راح يخبرنا عن الجزيرة ما استصعب علينا معرفته في تلك اللحظة.
تعتبر جزيرة مايوت أقدم الجزر الأربع الرئيسية في أرخبيل جزر القمر، وقد أطلق عليها الفرنسيون مايوت بالفرنسية (Mayotte) اقتباسا من الإسم العربي القديم، حيث جاءت الكلمة من اللغة العربية وهي الموت أي "جزيرة الموت" وسبب تسميتها بذلك وجود الشعب المرجانية التي تحيط بالجزيرة والتي كانت تحطم السفن التي تقترب من شواطئها وكأنها سور لحماية الجزيرة من الأعداء.
والدخول لهذه الجزيرة يقتضي ذات الإجراءات اللازمة لدخول أرض فرنسية، وما يتم فيها، يترتب على ذات ما يندرج على الأراضي الفرنسية، ولأن الأحوال والظروف المعيشية في كنف الاحتلال خير من الظروف التي يوفرها الاستقلال عن المحتل، فقد رفض أغلبية سكانها وهم من المسلمين، الاستقلال عن فرنسا في الاستفتاء الذي أدى لاستقلال الجزر الأخرى كدولة اتحادية.
وبذا تكون جزيرة مايوت، واحدة من الأراضي العربية المحتلة، ولكن بموافقة أهلها، فالقاعدة عندهم الحرية لا تطعم الجائع، ولا تكسي العريان.
كانت موروني التي نزلنا إليها بعدئذ، تقارب في طبيعتها وطقسها وصورتها صورة مايوت، والأرخبيل بدأ متشابها بعضه مع بعض، دون الغوص في التفاصيل والحياة المعيشية التي تتباين بين أرض وأخرى.
مطار موروني يحمل اسم الأمير سعيد إبراهيم، نسبة إلى أحد أمراء جزيرة القمر الكبرى سابقاً، لم يكن بالمطار أي مظاهر تقدم، فهو مطار بسيط، يقطع المسافر المسافة بين الطائرة ومبنى المطار مشيا على الأقدام، وإجراءات الوصول سهلة، أقول ذلك عن شخوصنا، ولأننا كنا مجموعة كبيرة، بعدما انضم المشاركون القادمون في رحلة الطيران الأخرى إلينا، وأنهينا معا إجراءات الوصول، والتي تمت بسلاسة ويسر، وبترحيب وبشاشة شعرنا خلالها أننا بين أهلنا، فالهيئة والملامح تكاد تكون واحدة.
كانت هيئة موظفي المطار وملابسهم قريبة من هيئة العُمانيين وملابسهم، وفي وجوههم رأيت البشر والتسامح، ولمست الود وحسن المعاملة، كانت لهجتهم مزيجا بين السواحلية والعربية، وتمثل اللغة السواحلية العمود الفقري للغة القمرية، إلا أن نطق القمريين لمعظم الألفاظ المشتركة تختلف عن نطق أهل السواحلية، حيث يغلب على النطق القمري حذف بعض الحروف أو استبدالها، كحرف الكاف، فالسواحلية تنطق الطعام بـ "شاكولا"، بينما القمري ينطقها شاهولا، والذهاب: تنطقها السواحلية: "ناكويندا"، بينما ينطقها القمري: هويندا.
في الحافلة التي أقلتنا إلى مكان إقامتنا، كان "أدبي" هو المرافق للوفد العُماني، والترجمان له، ومرشدهم السياحي أيضا، يعطينا نبذة مختصرة عن جزر القمر، ويشير إلى المعالم الواقعة في طريقنا إلى الفندق.
حدثنا عن مكونات جمهورية جزر القمر، وعن عاصمتها، وشيء من تاريخها، وعن انجزيجة وموالي وأنزواني وماهوري، وعن العاصمة موروني، فيما صور القمريين تتوالى علينا من نافذة الحافلة التي كانت تشق طريقا ممهدا، حينا ومعبدا حينا آخر، وبين حين وآخر كنت أرى صورا لرجال يرتدون ملابس قريبة من الملابس العُمانية، قال أدبي أنها تمثل الزي القمري الشعبي والرسمي، وتتمثل عناصره في الدشداشة، والإزار، والعمامة، والكمة، والبشت، والعصا، والسيف.
فيما بدت الكثير من المباني الصغيرة والمنازل ذات الدور أو الدورين في مراحل بنائها الأخيرة، وكأنها شيدت قريبا، وفي وقت واحد، كانت بعض هذه المنازل تسكن بين مزارع الموز والمانجو وأشجار الليتشي والنارجيل، وفي بعض المزارع تلوح أشجار القرنفل ونباتات اللإلينج والفانيلا وبعض النباتات العطرية.
كنت في تلك اللحظة أبحث عن زهر القرنفل، أو رائحة اللإلينج أو طعم الليتشي، وكنت أطل من نافذة الحافلة على المشاهد المتوالية للقمريين، بألوانهم وملابسهم المميزة، شعرت وكأني في مدينة عُمانية، أو أني أرى صورة عُمان في التفاصيل العابرة من النافذة، حيث مجموعة من الرجال يقطعون الشارع نحو المسجد القريب، والدشاديش البيضاء، والكمة هي ما يميزهم.
الصفوف المتراصة في بهو المسجد، تجعل المرء لا يخالجه الشك، أنه في مدينة عُمانية، أو أن مسافرين عُمانيين نزلوا مكانا ما، وحان موعد الصلاة، فتسابقوا فرادى وجماعات إليها.
عند انعطافنا من الطريق إلى ساحة واسعة، بدا فيها الزحام البشري أكثر من الطرق والمنعطفات الأخرى، كانت مجموعة من المركبات تقطع الطريق المؤدي إلى عدة جهات، وأناس يسيرون بينها، ومجموعة أخرى تفترش قارعة الطريق وتعرض للمارة أشياء كثيرة للبيع من فاكهة الليتشي، وزهور اللإلينج، وحتى المرطبات والحلويات، والمحارم الورقية.
كان المكان يشيء بحركة نشطة، وكأننا وسط مدينة مزدهرة بالأسواق والمراكز الحكومية.. وكان الأمر كذلك، فقد كنا في مركز العاصمة حيث القصر الرئاسي، والمراكز الحكومية، وتناثرت بعض الأسواق الشعبية والحديثة، على المحيط.. فيما بدت منارات المساجد، ومعالم المجالس العمومية الملحقة بها، واضحة عن قرب.
بعد مسير عشر دقائق من مركز المدينة، وصلنا إلى الفندق الذي سنأوي إليه في أيام رحلتنا إلى جزر القمر.. كان الفندق بسيطا، لا يتجاوز الثلاث نجوم بمقياس الفنادق التي نعرفها، لكنه بدا نظيفا ومرتبا، والأشجار تحفه من كل صوب.
قادني موظف الفندق إلى الغرفة التي سأقطن فيها، كانت متوسطة الاتساع، وبها نافذة واسعة تطل على حديقة الفندق، ومنها يمكن سماع النوارس والطيور، وتنسم عبق البحر المجاور.
كان اليوم الأول مساحة للراحة والتخلص من الإرهاق والتعب بعد يوم حافل من الانتقال في مطارات العالم، وجر حقائب السفر، ولذلك اتفقنا ـ أنا والأصدقاء ـ أن نلتقي على مائدة العشاء، بعد أخذ سِنة من النوم.
لكني نقضت الاتفاق، بعد اتصال هاتفي من الصديق خميس الجرادي الذي سبقنا في الوصول إلى جزر القمر، واتصل ليطمئن على وصولنا، سألته عن موقعه، فقال إنه في مبنى البرلمان يقوم وموظفي هيئة الوثائق والمحفوظات الوطنية باستكمال تجهيرات معرض الوثائق والصور، وترتيبات جلسات المؤتمر الدولي الخامس حول علاقات عُمان بدول القرن الأفريقي في الجوانب التاريخية والاقتصادية والاجتماعية والحضارية والثقافية.
كان مبنى البرلمان على مسافة قريبة لا تتجاوز عشر دقائق مشيا على الأقدام، ولذلك قررت التوجه إليه، ورؤية الأصدقاء الذين جمعتني الأيام بهم في لقاءات عديدة.
يتألف مبنى البرلمان من طابقين، وعلى وجهته حمل إعلانا كبيرا للمؤتمر الذي سيقام في رحابه، وبدت حوله حراسة أمنية، وثمة حركة ونشاط في ساحاته الداخلية والخارجية.
وصلت إلى مكان إقامة المعرض، ورأيت هناك الأصدقاء أحمد الصباحي وهارون الزدجالي وآخرين، وفي القاعة الأخرى التي ستحتضن الندوة كان وليد العبري وطالب الخضوري، وخميس الجرادي يتابعون وضع منصة المؤتمر وتوزيع الكراسي.
انتقلت بعدئذ مع خميس الجرادي وطالب الخضوري إلى المركز الإعلامي الذي أقيم لتغطية وقائع المؤتمر، لكنني في تلك اللحظة لم أدخلها بصفتي إعلاميا حضر لتغطية المؤتمر، ومتابعة جلساته، والتحدث مع أهم شخصياته، وإنما كصديق فتح له أصدقاؤه في هيئة الوثائق والمحفوظات الوطنية قلوبهم قبل أبواب مكاتبهم، وأماكن عملهم.
كانت بطاقات الحضور موزعة على إحدى الطاولات، وأجهزة الحاسب منتشرة بين كل طاولة وأخرى، وكذلك الحال مع طابعات الورق، والمذكرات والأوراق الخاصة بالمؤتمر، فيما كان على طاولة جانبية معدات القهوة العُمانية، والتمور، والشاي.. وكنت في تلك اللحظة بحاجة إلى فنجان قهوة عُمانية استعيد به أنفاس الوطن، وروحه الساكنة في قلبي، أنا وليت شطري.
ومع القهوة، كانت فاكهة الليتشي التي تشتهر بها جزر القمر، حاضرة، وقد تذوقت بدءا حبة واحدة، وجدتها شهية بطعم الشهد، ثم أخذت حبة ثانية وثالثة، لأتعرف أكثر على مذاقها، وكان أن وجدت بعد فترة وجيزة كميات كبيرة من نوى الليتشي تجمعت قريبا مني.. وكان الحال كذلك مع طالب الخضوري، حيث رحنا نلتهم "عذوق" الليتشي التي جلبها خميس الجرادي لتكون مؤونة لليوم التالي، فإذا المطاف ينتهي بها عند شخصين لم يشعرا أنهما كانا يأكلان الفاكهة بنهم شديد كأنهما لم يأكلا طيلة حياتهما.
بعد هذه الجلسة، صارت فاكهة الليتشي رفيقتنا الدائمة في كل جلسات الأصدقاء والرفاق في جزر القمر، وغدت حديثنا اليومي، وكأننا اكتشفنا فاكهة جديدة لم نعرفها من قبل، أو أننا لم نتذوقها قبلئذ، ولم نعرف فاكهة في جزر القمر بحلاوتها وطعمها الشهي.
وعلى الرغم أن جزر القمر بلاد زراعية، وثمة فواكه عديدة تنمو فيها كالموز والأناناس، والفانيليا، والقرنفل، وزهور اللإلينج الذي تعد زيوته الأهم في صناعة العطور الباريسية الشهيرة، إلا أن قطاع الزراعة في هذه البلاد ضعيف، ولم يتم تسويقه على الوجه الأمثل.
كان جل الإنتاج من الفواكه والخضار، يستهلك محليا، وقل منه ما يصدر جوا أو بحرا.. والشركات الاستثمارية وجدت في دول أخرى عوامل جذب أكثر، جعلتها تحجم عن الاستثمار في هذا البلد العربي المنزوي في آخر الركن.

للرحلة بقية

تجوال: خلفان الزيدي
Twitter: @khalfan74