[author image="https://alwatan.com/v2/v2/wp-content/themes/watan/images/opinion/mohamedabdel.jpg" alt="" class="avatar photo" height="60" width="60"]محمد عبد الصادق[/author]

” .. شهر رمضان كان شهر الانتصارات والإنجازات الكبرى العربية والإسلامية على مدار التاريخ؛ فانتصر فيه المسلمون بقيادة الرسول محمد عليه الصلاة والسلام على مشركي قريش في موقعة بدر, وترتب على هذا النصر تدعيم الدعوة الإسلامية, وتأسيس الدولة الإسلامية, وفي العام الثامن الهجري وفي شهر رمضان كان فتح مكة ودخول الكعبة المشرفة,”
ـــــــــــــــــــــــ

حتى وقت قريب كان الموظفون حريصين على أن تواكب إجازتهم السنوية شهر رمضان المبارك, ليتفرغوا للعبادة , وقراءة القرآن, وصلاة التراويح والتهجد والاعتكاف, وما يصاحب أيام الشهر الفضيل من زيارات وسهرات, قد تمتد لوقت السحور, ومن ثم صلاة الفجر والخلود للنوم حتى أذان الظهر.
ولكن تلاحظ في السنين الأخيرة عزوف الموظفين عن هذه العادة, وإصرارهم على الانتظام بالدوام في رمضان, والحصول على إجازتهم السنوية في أي وقت ما عدا رمضان, وعندما استقصيت عن سبب هذا التغيير الذي طرأ على مزاج الموظفين: تبين لي أن وراء هذا (التكتيك) هو توقف دولاب العمل بمعظم المصالح في رمضان, فمن لم يستطع إنجاز معاملته قبل دخول الشهر الفضيل, عليه الانتظار إلى ما بعد عيد الفطر, ولو قدر لك وذهبت إلى إحدى المصالح لإنجاز معاملة ما, ودخلت الساعة التاسعة الموعد المعلن لبدء الدوام, واستطعت الوصول لأحد الموظفين وسألته عن الموظف المنوط به إنجاز معاملتك, فسينظر لك باستغراب, وكأنك أقدمت على فعل مشين, وربما لا يكلف نفسه الرد عليك, وإذا رد سيطلب منك العودة عقب العيد لأننا في رمضان والناس صائمون.
وبسبب هذه العادة الطارئة في رمضان, تجد زحاماً بالشوارع الرئيسية قبل التاسعة, وإذا رماك حظك العثر للسير بسيارتك في الحارة اليسرى من الطريق العام, وكان خلفك أحد الموظفين المتجهين لدوامهم في رمضان, فتحمل ما يحدث لك, فلن يكتفي الموظف الثائر بتقليب الأنوار ولا زئير المحرك الجبار, ولكن سيخرج يده من نافذة السيارة, ويرفع عقيرته يؤنبك على تعطيله عن العمل ووقف حاله ببطئك, وبرود سياقتك التي مكانها الحارة اليمنى من الطريق, وإذا كان عقلك صغيراً وقررت السير وراء هذا الموظف المتعجل لتعرف سبب عجلته , ستجده مثل المجنون يسابق الريح للوصول لمكان الدوام, ويترك سيارته في عرض الطريق, وينزل منها ملهوفاً, لا يرى شيئاً في طريقه, وتجد الجميع يفسح له المجال , لينقض على الدفتر الموجود على طاولة الاستقبال: إنه دفتر الحضور, وبمجرد إمساكه القلم وتوقيعه حضوراً في الدفتر, تجده تحول لشخص آخر .. جميل, وديع الابتسامة تعلو وجهه والهدوء لا يفارق محياه, وتتخيل أنه فعل كل ذلك لينجز الأعمال المتأخرة, و ينهي معاملات الناس المنتظرة داخل صالة المراجعين, ولكنك تفاجأ أن شحنة الحماس كانت موجهة برمتها لدفتر الحضور, ولا مكان فيها لغير ذلك, وعلى المتضررين الانتظار لما بعد رمضان والعيد.
وعقب تحقيق المراد من رب العباد والاطمئنان أن التوقيع استقر في الدفتر, تجد الجميع انصرف لقضاء مآربه, فهذا موظف يطارده النوم نتيجة السهر طوال الليل, ويبحث عن مكان أمين ليضع رأسه بين مرفقيه ويغط في نوم عميق, يصحو منه على صوت المؤذن لصلاة الظهر, يتوضأ ويصلي الجماعة في المسجد المجاور, ويعود لمكتبه ليستعد للتوقيع في دفتر الانصراف, ولكن هذه المرة بفتور وأعصاب هادئة.
وموظف آخر لكنه همام ينام عقب صلاة القيام, ويصحو قبل السحور بقليل وبعد صلاة الفجر يعاود النوم ساعتين تجعله نشيطاً وهو متوجه للدوام, ولكنه لا يطيق الجلوس على مكتبه, ويهوى الطواف على المراكز, والمحلات التجارية وصالات بيع السيارات, التي تتفنن في تقديم العروض والتخفيضات, والسحوبات الرمضانية, وليس مهما أن يشتري ولكن متعته في تبديد وقت الدوام في شيء مفيد, وسرعان ما يمر الوقت ولكن للحقيقة يحرص على الرجوع للعمل قبل صلاة الظهر ليلحق بزميله الآخر في الصلاة بالمسجد المجاور.
وهناك الموظف الورع الذي لا يفارقه المصحف ويحرص على ختم القرآن أكثر من مرة, ولكنه لا يجد أفضل من مكتبه الوثير ليحسن الترتيل, ويحسن التدبر والاتعاظ, وهو لا يكلف نفسه مشقة الرد على أحد يكفي أن يشاهده السائل يرطب فمه بذكر الله فيستحي أن يقاطعه. يا جماعة الموظفين: العمل عبادة, ورمضان شهر العبادة, وتعطيل مصالح الناس فيه أمر مكروه, وإنجاز الأعمال فيه يعد تقرباً وطاعة لله.
حتى من الناحية الطبية, فالصوم يجعل الجسم خفيفاً , والذهن صافياً,والعقل متوقداَ , خصوصاً في الصباح والجسم مازال محتفظاً بحيويته ولم يفقد سوائله .
ورمضان فرصة لأن يخلص المرء في معاملاته كما يخلص في عباداته من صيام وقيام وقراءة القرآن , بل الإخلاص في العمل وإتقانه أولى حتى يبارك لنا الله في الراتب الذي نتقاضاه أول كل شهر, ويفتح لنا منافذ الرزق الحلال , ويبارك لنا في صحتنا وعافيتنا.
وللمفارقة أن شهر رمضان كان شهر الانتصارات والإنجازات الكبرى العربية والإسلامية على مدار التاريخ؛ فانتصر فيه المسلمون بقيادة الرسول محمد عليه الصلاة والسلام على مشركي قريش في موقعة بدر, وترتب على هذا النصر تدعيم الدعوة الإسلامية, وتأسيس الدولة الإسلامية, وفي العام الثامن الهجري وفي شهر رمضان كان فتح مكة ودخول الكعبة المشرفة, وانطلاق الدعوة, وبداية الدولة, وفي شهر رمضان سنة 16 هجرية كانت معركة القادسية التي خاضها المسلمون ضد الفرس واستطاع الصحابي القائد سعد بن أبي وقاص هزيمة جيوش كسرى آنوشروان الجرارة, وإنهاء سيطرة الفرس على شمال شبه الجزيرة العربية.
وفتح الأندلس أيضا كان في رمضان سنة 92 هجرية في عهد الخليفة الأموي الوليد بن عبد الملك, واستطاع القائد الفذ طارق بن زياد عبور البحر المتوسط ورفع راية الإسلام على أرض أوروبا.
ومعركة عين جالوت سنة 658 هجرية في 15رمضان استطاع الظاهر بيبرس قيادة الجيوش العربية لصد الزحف المغولي وإنقاذ العالم من خطرهم.
حتى المعركة الوحيدة التي استطاعت الجيوش العربية هزيمة إسرائيل خلالها كان في العاشر من رمضان السادس من أكتوبر سنة 1973, عندما استطاع الجيشان المصري والسوري في الساعة الثانية بعد الظهر, ومعظم الجنود صائمون, عبور قناة السويس, وتحطيم خط بارليف على الجبهة المصرية, وصعود هضبة الجولان, وتحرير مدينة القنيطرة في الجبهة السورية, وكان تحديد الميعاد في عز ظهر رمضان ضمن خطة الخداع الاستراتيجي التي لم تتوقعها إسرائيل.