” لغرض من ناحية، وباستسهال وهطل من ناحية أخرى، وجريا على بساطة صراع طائفي له مركزان عبر الخليج يغذينا الإعلام يوميا بأن داعش تكتسح وتجتاح وتعلن الخلافة وكأنه لم يبق أمامها سوى التمدد شمالا وشرقا وجنوبا لتستعيد الامبراطورية الإسلامية. وعلى استحياء، لا ينقل الإعلام ما يتعرض له مسلحو داعش على يد مسلحي ما يسمى مجلس شورى مجاهدي الشرقية (مشمش) في شمال شرق سوريا. ”
ـــــــــــــــــــــ

كل عام وأنتم بخير مع بداية الشهر الفضيل، والذي يتذكر أبناء جيلي من مدمني الإذاعة برنامجا فكاهيا كانت تبثه الإذاعة المصرية كل رمضان ويقدمه الفنان الكوميدي الراحل سيد الملاح بعنوان "سيد مع حرمه في رمضان" يستعرض مفارقات الأسرة المصرية في شهر الصيام بشكل ساخر. وليت المرء كان قادرا على الاستطراد في حديث شهر الصيام وذكرياته، إلا أن الحاضر يثقل علينا بظلال كثيفة تعوق الرؤية من خلالها. فقد بدأ شهر رمضان بإعلان تنظيم ما يسمى بالدولة الإسلامية في العراق والشام (داعش) عن قيام الخلافة الإسلامية في العراق وسوريا وبايع زعيمه خليفة. انتشى المسلحون من جماعات متطرفة، أغلبها من العراقيين ومعها متطرفون من مسلمي دول أخرى، بعملياتهم في العراق التي كشفت أن العراق لم يعد بلدا، لا به جيش ولا قيادة "تجميعية" تتجاوز الطائفية ولا حتى شعب متمسك بوطنيته على أساس انتماء للعراق وليس لتلك الطائفة أو الجماعة العرقية.
وحتى لا نقع في فخ التهويل الإعلامي، الذي يعتمده الإعلام الغربي ـ وما ينقل عنه من إعلام عربي ـ لغرض، نشير بداية إلى أن داعش لا تختلف كثيرا عن "البعبع الإرهابي" الذي كان يسمى تنظيم القاعدة بزعامة أسامة بن لادن وكان ذريعة "الحرب على الإرهاب" وغزو واحتلال دول وبروز أدوار لدول أخرى وحتى اشتهار وانتشار وسائل إعلام عالميا. وتم استنساخ ميكروب القاعدة بحركات وجماعات مختلفة من "النصرة" إلى بوكو حرام في نيجيريا، وشراذم أخرى متناثرة من المحيط إلى الخليج. ليس هذا تقليلا من خطورة تلك الجماعات والتنظيمات، وإنما فقط وضع للأمر في سياقه كيلا نسهم في جهد من يريد بيع سلاح لدول المنطقة بتعظيم تخويفها من ميكروبات الإرهاب، ولا من يريد أن يعزز دوره الدولي والإقليمي بتحالفات ضد الإرهاب أو بمن يقفون وراءه.
لم يتوقف الإرهاب والعنف في العراق منذ غزوه واحتلاله عام 2003 وحل جيشه وتشكيل أغلب السياسيين ـ إن لم يكن كلهم ـ ميليشيات طائفية ونفعية انتهازية. إلا أن داعش عرفت في سوريا أكثر من العراق في العامين الأخيرين. وما إن بدأت الدول الإقليمية الداعمة للمعارضة السورية المسلحة بتكوين ودعم جماعات "جهادية" أخرى في شمال سوريا حتى تراجعت داعش، وتقهقرت إلى مناطق في الشرق قرب حدود العراق. لكنها لم تفعل شيئا في العراق إلا مع اختمار بيئة داخلية مناسبة فيه، ساهم في تهيئتها كل السياسيين في بغداد بطائفيتهم وتشبثهم بالسلطة أساسا لمنافعها المادية الانتهازية وليس لأسباب وطنية ومثل عليا كما يرددون في الإعلام. وركز الإعلام على "انتصارات" داعش في محافظة نينوى وسيطرتها على مدينة الموصل وفرار الجيش العراقي ـ الذي لم يعد عراقيا تماما بل جيش حكومة المالكي ـ من المنطقة واستيلاء الأكراد على كركوك. ولم يذكر أحد كيف أن تلك المناطق العراقية ذات الأغلبية السنية تعاني منذ سنين، ودخلت في حملة احتجاجات منذ نحو عامين ضد طائفية حكومة بغداد ومطالبة بحقها في الوطن.
لغرض من ناحية، وباستسهال وهطل من ناحية أخرى، وجريا على بساطة صراع طائفي له مركزان عبر الخليج يغذينا الإعلام يوميا بأن داعش تكتسح وتجتاح وتعلن الخلافة وكأنه لم يبق أمامها سوى التمدد شمالا وشرقا وجنوبا لتستعيد الامبراطورية الإسلامية. وعلى استحياء، لا ينقل الإعلام ما يتعرض له مسلحو داعش على يد مسلحي ما يسمى مجلس شورى مجاهدي الشرقية (مشمش) في شمال شرق سوريا. وبعدما كانت ما تسمى جبهة النصرة، التي تحالفت مع داعش قبل عامين، هي المناوئ الرئيسي لداعش أصبح هناك تحالف من عدة فصائل وجماعات تقاتل داعش أكثر مما تقاتل قوات الجيش السوري. صراع داعش ومشمش يزداد حدة منذ أبدى الغرب ـ وتحديدا واشنطن ـ ترددا في دعم المعارضة السورية لأن "بها إرهابيين"، وكذلك لأن تلك الجماعات والفصائل بدا لها وأنها "حررت" جزءا معقولا من الأراضي السورية وآن وقت اقتسام الغنائم. غنائم لا تتوقف على الأرض والمدن والبلدات ومن يسكنونها، بل أيضا غنائم تشمل المساعدات والتبرعات والتمويل. وهكذا، صدق فيهم المثل الشعبي الشهير "لم يروهم وهم يسرقون، كشفوهم وهم يتعاركون" على اقتسام السرقة.
وكما شهدت المعارضة السورية المدعومة خارجيا في البداية من صراعات ومشادات في فنادق اسطنبول وغيرها لتقاسم الأموال القادمة من الخارج، يتقاتل مسلحو داعش ومشمش ليس بالضرورة على مغانم الدنيا فقط ـ وان كانت في حساباتهم مغلفة بغلالة عقائدية مشوهة ـ ولكن على أساس خلافات "أيديولوجية" تعكس التفسير المتخلف للنصوص والجهل المزود بالسلاح الفتاك. وفي سوريا أيضا، لا يقتصر الصراع على داعش ومشمش بل هناك أيضا ما تبقى من جماعات كثيرة بعضها "جهاديين" وبعضها عناصر مما سمي "الجيش السوري الحر". ولا يتصور أن يترك سكان المحافظات العراقية ذات الأغلبية السنية مقاتلي داعش يعيثون في الأرض فسادا ـ حتى لو كانوا في لحظة عونا لهم على حكومة المالكي ـ وأغلب هؤلاء السكان من أبناء قبائل وعشائر ولديهم سلاحهم وميليشاتهم إذا لزم الأمر. صحيح أن تشبث المالكي بالسلطة، وانتهازية كل سياسيي بغداد من شيعة وسنة ومراهناتهم على واشنطن أو قوى إقليمية تدعم هذا وذاك يؤجل هذا الشقاق بين العشائر وداعش حتى الآن على الأقل. لكن ما لاشك فيه أن خطر داعش سيتراجع أمام صراع آخر في العراق، على طريقة داعش ومشمش في سوريا ـ ربما ليس في رمضان.

د. أيمن مصطفى* كاتب صحفي عربي