رسالة الإنسان في هذه الحياة عمارة الكون عمارة روحية وحسية، عمارة إيمانية ومادية وفق منهج الله تعالى، وعمارة الكون عبادة يتقرب بها المسلم إلى خالقه تبارك وتعالى.
رسالة الإنسان في الوجود هي الإسلام، نشر مبادئ الحق، والعدل، والمساواة، ونشر مثل الخير وقيم الفضيلة وإرساء دعائم المحبة والوئام، والأمن والسلام. رسالة الإنسان في الحياة تعليم البشرية، وتوجيهها، وإصلاح ذات البين، وإسداء النصيحة.
إن رسالة الإنسان في هذه الحياة تتمثل في الإصلاح؛ الإصلاح المعنوي والمادي في كل جوانب الحياة، إصلاح الفكر والقيم، وإصلاح الأخلاق والمبادئ، وإصلاح الفرد والأسرة وإصلاح المجتمع والأمة، وإصلاح الوطن والأرض؛ بما يخدم الإنسان، ويسهم في استقراره، ورقيه، ويحقق له سبل العيش الكريم، والحياة الآمنة الهادئة المستقرة، والسعادة الأخروية الأبدية.
وما أجمل ما قاله المفكر الإسلامي محمد إقبال، وهو يتحدث عن رسالة المسلم، ومقامه في الحياة، وما عليه أن يفعل إذا تنكر له الزمان، وعصاه المجتمع، قائلًا: " إن المسلم لم يخلق ليندفع مع التيار, ويواكب الركب البشري حيثما اتجه وسار, وإنما خلق ليوجه العالم والمدنية، وليفرض عليها إرادته, ويملي عليها اتجاهه؛ لأنه صاحب الرسالة، وصاحب العلم اليقين, ولأنه هو المسؤول عن هذا العالم، وسيره، واتجاهه, فليس مقامه مقام الاتباع والتقليد, وإنما مقامه مقام الآمر الناهي, مقام الإمامة والقيادة, ومقام التوجيه والإرشاد ، فإذا تنكر له الزمان، وعصاه المجتمع, وانحرف عن الجادة, لم يكن له أن يضع أوزاره, ويسالم الدهر, بل عليه أن يثور عليه وينازله, ويظل معه في صراع وعراك حتى يقضي الله في أمره. إن الخضوع والاستكانة للأحوال القاهرة، والأوضاع القاصرة، والاعتذار بالقضاء والقدر من شأن الضعفاء والأقزام, أما المؤمن فهو نفسه قضاء الله الغالب، وقدره الذي لا يرد".
إنها كلمات رائعة تستحق أن تكتب بماء الذهب على صفحات اللجين، وأن تسطر على جبين الدهر، وأن تخلد في ذاكرة التاريخ لتستفيد منها الأجيال تلو الأجيال، قال عنها سماحة الشيخ العلاّمة أحمد الخليلي:" كلمات من ذهب".
وأقول:إن رسالة الإنسان في الحياة هي تحقيق مراد الله تعالى؛ فالإنسان لله، وهو راجع إليه، فيجب أن يكيف حياته وفق منهج الله تعالى، وأن يجعل حياته كلها لله رب العالمين، يقول الله تعالى:(إنا لله وإنا إليه راجعون) (البقرة ـ 156)، ويقول تعالى حكاية عن أبي الأنبياء إبراهيم عليه السلام:(قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين} (الأنعام ـ 162).
هذه هي حقيقة الإنسان، وهذا هو مقامه، وهذه هي مهمته في الحياة، وهذه هي رسالته في الكون؛ فإذا لم يقدّر الإنسان حقيقته، وإذا لم يدرك مقامه، وإذا لم يقم بمهمته، وإذا لم يؤد رسالته؛ فإنه يتخلى عن إنسانيته، وينحدر أسفل سافلين، وينحط إلى مستوى البهائم، بل يكون أضل من الأنعام سبيلا؛ لأن الأنعام لم تؤت ما أُوتي الإنسان. لم تؤت العقل الذي يفكر ويبتكر، والذي ينتج ويخترع، ولم تؤت الإرادة للتي تحرك وتدفع، والتي تملي وتوجه، والتي ترجح وتختار، والتي تتقن وتبدع، فالأنعام لم تؤت هذه المواهب الروحية، والطاقات العقلية, التي أُودعَها الإنسان؛ فما حدث أن حيوانًا ألف كتابًا، أو غير أنماط حياته، أو حسن من أسلوب عيشه، أو طور بيته، أو فصل لباسه، أو اخترع شيئًا، أو ابتكر آلةً، أو اكتشف جديدًا، بخلاف الإنسان؛ الذي أنتج وأعطى، وطور وحسن، وألف واكتشف، وابتكر واخترع، فالحيوان معذور إذ لم يؤت ما أوتي الإنسان, ومن ناحية أخرى فإن الحيوان يؤدي مهمته, ويقوم بدوره المطلوب في الحياة.
أما إذا قدّر الإنسان حقيقته، وأدرك مقامه، وقام بمهمته، وأدى رسالته على أكمل وجه وفق منهج الله تعالى وهو الإسلام، فإنه يسمو ويعلو، يرتقى ويرقى؛ ليكون في مصاف الملائكة، بل يكون أرقى وأفضل من الملائكة؛ لأن الملائكة لم تؤت ما أوتي الإنسان من الغرائز، والملذات، والشهوات، كما لم يُسلط عليها ما سُلط على الإنسان من نوازع الشر، وشياطين الإنس والجن. يروى عن علي بن أبي طالب كرم الله وجهه أنه قال: " رُكب الملك من عقل بلا شهوة، ورُكب الحيوان من شهوة بلا عقل، ورُكب الإنسان من كليهما، فإن سما عقله على شهوته, أصبح فوق الملائكة، وإن سمت شهوته على عقله, أصبح دون الحيوان".
.. وللحديث بقية.

د/ يوسف بن ابراهيم السرحني