يعد الموروث أحد أهم عوامل بناء الشخصية الوطنية، خاصة إذا كان يشكل فخرًا واعتزازًا وطنيًّا. فعوامل القوة الأممية لا تقاس فقط بمقياس قوة الحاضر العسكرية والاقتصادية والاجتماعية، لكنها تتألف مما سبق إلى جانب التاريخ الموروث، الذي يمثل قوة ناعمة تفتح أبواب النهوض بكل عناصره، فالدولة لا تستطيع بناء حاضر راسخ بغير الاعتماد على موروث ثقافي واجتماعي وحتى اقتصادي، يشكل البناء الأساسي لمواطنيها؛ فدولة بلا ماضٍ لن تستطيع بناء حاضر يستشرف المستقبل، ويحافظ على مقدرات النهوض والقوة ومكامنها.
فمن يلاحظ النسق البنيوي للنهضة العمانية يجدها استلهمت من موروث الأجداد ما يعينها على بناء حاضر يرتكن على أساس صلب يتحمل علو البنيان عامًا بعد عام، حيث أدرك حضرة صاحب الجلالة السلطان قابوس بن سعيد المعظم ـ حفظه الله ورعاه ـ عوامل القوة العمانية في العصور المتعاقبة، فكان حريصًا على استحلاب تاريخ عمان التليد، ليستخلص منه الصالح الذي يعينه على بناء نهضة سيظل التاريخ يذكرها بأحرف من نور، تمزج الحداثة بالموروث الصالح، لتشكل أركانها الاقتصادية والاجتماعية والثقافية محددات تعود لتاريخ عُمان التليد، تأخذ بيدها نحو مستقبل زاهر يعرف لغة عصره، ويعتز بتاريخه، ويشمر السواعد ليبني حاضره، حتى يصنع نموذجًا تنمويًّا مستدامًا، يحفظ حقوق الأجيال القادمة في الرفاهة.
ولعل الاحتفاظ بالموروث الوطني وتنميته في النفوس يتخطى قيمة الاعتزاز بتاريخ يجلب الفخر، ليكون معينًا على النهوض في مختلف جوانب الحياة، فمن الموروث نلتمس الرؤية، فهو دومًا كان كالسراج يهدينا لمكامن القوة الذاتية، لننميها وننمو معها، لذا فليس من المستغرب أن تسعى السلطنة بكافة هيئاتها إلى توثيق هذا الموروث، وحفظه للاستفادة منه للجيل الحالي والأجيال المتعاقبة. فما قامت به الهيئة العامة للصناعات الحرفية من إيداع مجموعة من المصنفات الحرفية التي أصدرتها الهيئة مؤخرًا والتي تتضمن العديد من المنتجات الحرفية في الصناعات الحرفية المختلفة وذلك بدائرة الملكية الفكرية التابعة لوزارة التجارة والصناعة، بالإضافة إلى تسجيل المخطوط العماني "معدن الأسرار في علم البحار" في برنامج سجل ذاكرة العالم بمنظمة اليونسكو، يَصُف في هذا النهج ويؤكده.
حيث تأتي أهمية تسجيل المصنفات الحرفية في نظام الملكية الفكرية بهدف حماية الموروثات الحرفية الوطنية المبتكرة، وتطوير الأداء الحرفي، وتجويد الصناعات الحرفية، وتعزيز الحس الإبداعي لدى الحرفيين، بالإضافة إلى تحقيق التكامل في العمل على المستوى الإقليمي والدولي مع المنظمات والهيئات المختصة بحماية حقوق الملكية الفكرية، حيث تترجم التزام الهيئة بتأمين الحماية التشريعية لتصاميم المنتجات الحرفية بما يلبي الاشتراطات المعمول بها والتي تكفل الحقوق والواجبات لمكونات القطاع الحرفي، كما تضبط جودة المنتجات الحرفية مما يسهم في استمرارية المنشآت الحرفية والحرفيين بالدور الفاعل في تنوع مصادر الدخل، فضلًا عن تحقيق مؤشرات الإجادة الحرفية.
كما يعد نجاح السلطنة في تسجيل المخطوط العماني "معدن الأسرار في علم البحار" في برنامج سجل ذاكرة العالم بمنظمة اليونسكو نموذجًا آخر من توثيق الموروث؛ فالمخطوطة من أهم المخطوطات العالمية في علم البحار، كما أنها من أهم المرشدات البحرية لتناولها قواعد العلوم البحرية، وقيادة السفن باستخدام الآلات البحرية وحساباتها الدقيقة، ووصف البوصلة وأجزائها واستخراج مساج السفينة وخطوط الطول والعرض فيه وجداول الميل، كما تشكل هذه المخطوطة أهمية كبرى للدارسين في مجال السياسة والاقتصاد العالمي ورحلات القبائل عبر البلدان وخاصة في تلك الحقبة الزمنية قبل عصر النهضة في السلطنة؛ حيث دلت المخطوطة على علاقات وثيقة بين كثير من الدول برابطة البحر، ويؤكد ذلك وجود قبائل بلد في بلد آخر ووجود آثار وعادات وثقافات معروفة في بلد لدى بلدان أخرى.