الحمد لله الـذي أنـزل عـلى عـبـده الـكـاب ولـم يـجـعـل له عـوجـا ، والصلاة والسلام عـلى رسـول الله صلى الله عـليه وسـلم السـراج المـنـير وعـلى آله وأصاحـبه الـذين أكـرمهـم الله بصـحـبة رسـوله الطـيبين الطـاهـرين ، وعـلى التابعـين لهـم بإحـسان إلى يـوم الـدين وبـعـد:
فـلا زال الحـديث مـوصـولا عـن الـفـوائـد التي تشـتمـل عـليها الآيـة الـكـريمة العـامـة الشامـلة ، قال تعالى:{لـيس البـر أن تـولـوا وجـوهـكـم قـبـل المشـرق والمغـرب ..} )البـقـرة ـ 177(.
قال الإمام الـطاهـر بن عـاشـورة في تفـسيره التحـريـر والتـنـويـر الجـزء الثاني : وقـد حـصل بنـصب { الصـابـرين }هـنا فـائـدتان : إحـداهـما عـامـة في كل قـطـع مـن النـعـوت ، فـقـد نقـل عـن أبي عـلي الفارسي أنـه إذا ذكـرت الصـفات الكـثيرة في معـرض المـدح أو الـذم فالأحـسن أن يـخـالف إعـرابها إن كان المقـصـود أكـمـل لأن الـكلام عـنـد اخـتلاف الإعـراب يصير كأنه أنـواع مـن الـكلام وضـروب مـن البـيان.
قال في الكـشاف:(نصـب عـلى المــدح وهـو باب واسـع ذكـره سـيبـويه عـلى أمـثـلة وشـواهــد ، قـلـت: قال سـيبويـه في باب ما ينتصـب عـلى التعـظـيـم والمـدح: (وإن شـئـت جـعـلته صـفة لجـرى عـلى الأول ، وأن شـئت قـطـعـته فابـتـدأت به ، مـثـل ذلك قـوله تعالى : { ولـكـن الـبر مـن آمـن بالله والـيـوم الآخـر } إلى آخـره : { والصـابـرين } ولــو رفـع الـصابـرين عـلى أول الـكـلام كان جـيـدا ولـو ابـــتـدأته رفـعـته عـلى الابـتـداء كان جـيـدا ونـظـير هـذا النصـب قـول الحـر قي :
لا يـبعـدن قـومي الـذين هــمـوا سـم العــداة وآفـة الـجــزر
النازلــين بــكل مــعــــــــترك والطـيبـون مـعـاقـــد الأزر
بنـصب النـازلــين ، ثـم قال : وزعـم الخـليـل أن نصب هـذا عـلى ألـك لم تـرد أن تحـدث الناس ولا مـن تخـاطـب بأمـر جـهـلـوه ، ولـكـنهـم قـد عـلمـوا مـن ذلك ما قـد عـلمـت فـجـعـلته ثـناء وتعـظـيـمـا ونصـبه عـلى الفـعـل كأنه قال أذكـر أهـل ذلك وأذكـر المـقـيمـين ولكـنه فـعـل لا يـستعـمـل إظـهـاره ) .. انتهى.
و{ في البأسـاء }أي : الشــدة أي عـنـد حـلـولها بهـم :{والضـراء }بمعـنى البأساء وهي الـشـدة أيضا كـما فـسرهـما في القامـوس ، وقال ابن الأثـير: الضـراء الحالة التي تضـر وهـي نقـيض السـراء ، وهـما بـناءان للمـؤنـث ولا مـذكـر لهـما:{ وحـين البأس }أي: وقـت مجاهـدة العـدو في مـواطـن الحـرب، وزيادة الحـين للإشـعـار بـوقـوعـه أحـيانا ، وسـرعـة انقـضائه، ومـعـنى البأس في اللغـة:الشـدة ، يـقال: لابأس عـليـك في هـذا أي لا شـدة ، وعـذاب بئيس شـديـد ، وسـميت الحـرب بأسـاء لما فـيها مـن الـشـدة ، والعـذاب ، ويسمى بأسـا لـشـدته قال الله تعالى:{فـلما رأوا بأسـنا قالـوا آمـنا بالله وحـد وكـفـرنا بمـا كـنا به مـشـركـين } (غـافـر ـ 84)، وقال تعالى:{ فـلما أحـسـوا بأسـنا إذا هـم منها يـركضـون } (الأنبياء ـ 12)، وقال:{فـمـن ينصـرنا مـن بأس الله إن جـاءنا} (غافـر ـ 29)، وقال ابن سـيـده : البأس الحـرب ، ثـم كـثر حـتى قـيـل لا بأس عـليك أي لا خـوف.
وقال الـراغـب : اسـتـوعـبـت هـذه الجـملة أنـواع الصـبر ، لأنه إما أن يـحـتاج إلى الصبـر في شيء يـعـوز الإنسان ، أو يـريـده فـلا يـناله ، وهـو الـبأسـاء ، أو فـيما نال جـسمه مـن ألـم ، وهـو الضـراء ، أو في مـدافـعـة مـؤذيـة وهـو البأس.
قال تعالى:{أولـئـك الـذي صـدقـوا} في إيـمانهـم ، لأنهـم حـقـقـوا الإيـمان القـلبي بالأقـوال والأفـعـال ، فـلم تغـيرهـم الأحـوال ، ولـم تـزلـزلهـم الأهـوال، وفـيه إشـعـار بأن مـن لـم يـفـعـل أفـعـالهـم لم يـصـدق في دعـواه الإيـمان، { أولئـك هـو المتـقـون}عـن الكـفـر وسـائـر الـرذائـل ، وتكـريـر الإشـارة لـزيادة تـنـويه بـشأنهـم وتـوسـيـط الضـمـير للإشـارة إلى انحـصار التقـوى فـيهـم.
قال الـواحـدي: هـذه الـواوات في الأوصـاف في هـذه الآيـة للـجـمـع، فـمـن شـرائـط الـبـر ، وتـمام شـرط الـبار، أن تجـتـمـع فـيه هـذه الأوصـاف ، ومـن قـام به واحـد منها لــم يسـتحـق الـوصـف بالبـر.
فالإنـكار هـو حـال المشـركـين والكـفـرة والمـلاحـدة، والشـك هـو حـال المـسلـمـين الــذين يـقـولـون : لا إله إلا الله محمد رسـو الله، وإذا سـئـل أحـدهـم : هـل تـؤمـن بالبـعـث والحساب والعـقاب والثـواب؟، يـقـول : نعـم ولـكـن حـيـث لـم يسـتعــد للآخـرة فـهـو إذن منها في شـك لأنه عـمـل ولـكـن كان عـمـله عـمـل الشـاك ، لا عـمـل الإيـمان اليـقـيني الراسخ ،ولهـذا قـابـل الله تعالى الإيـمان بالشـك ، أو ليسـت هـذه الحجـة قـطـعـت عـلينا كل عــذر ؟ ، فـلـن ينـفـع العـصـاة قـولهـم : نحـن نـؤمـن بالآخـرة بـل هـم شـاكـون وهـم كما يـقـول الشـيح أبـو نصـر رحـمه الله:
نـرى الأمـر عـن عـلم اليقـين تيقـنا ونعـمـل أعـمال الـذي شـك في الأمـر
ولـو أنـك تـذهـب إلى أحـد العـصاة، وقـلـت لـه: إلى مـتى وأنت تارك الصـلاة ومتـبــع لشهـواتـك، ومسترسـل وراء هـواك ؟، ألـم تـؤمـن بالآخـرة ؟ فـيجـيـبـك قـائـلا : وكـيـف لا أومـن بالآخـرة ؟ ، أنا مـؤمن بـهـا ( ذلك قـول يفـوه به لسانه ، ولا يـقـره جـنـانه ) ولكـن حـقـيقـة أمـره عـبـث وكـذب ، فـهـو لم يـؤمـن وإنما تـوهـم أنه مـؤمـن، كما أن ذلك الإيـمان ليـس إيمانا ، وإنما هـو وهـم تسـلط عـليه مـن خـلال تفـكـيره المنحـرف.
فـمـثـلا قـد يـكـون أحـد في الشـارع يسـير وهـو مشـغـول البال ، وإذا به يـرى عـقـربا أو أفـعـى ، فـلشـدة إيـمانه الحـقـيقي بخـطـرها يـقـفـز قـفـزة قـد تـؤدي به إلى السـقـوط في هـوة فـتتهـشـم رأسـه أو تنكـسر رجـله ، وإنما يفـعـل هـذا لأن في قـلـبه عـلما يقـينيا بضـرها ، ويسـتحـيـل أن يـعـرض نفـسـه لخـطـرها إلا إذا تعـمـد الانتحـار ، كما يـفـعـل المـنـتحـرون ذلـك هـو العـلم اليقـيني المـرادف للإيمـان.
ألا لا يـكـذبن عـلينا المـتمـادي في المـعـاصي ، ولا عـلى نفـسه ولا عـلى الله ، فـيقـول : ضـع يـدك عـلى العـقـرب لتـلسعــك ، أو في فـم الأفـعى أو ارم نـفـسـك مـن ذروة جـبـل عـال ، إنـك مـتيقـن بالمضـرة إذا أقـدمـت عـلى ذلك.
فادعـاء الإيمان كـذب، وهـنا تـبـدو لنا النـكـتة الجلـيـلة في مقـابلة الإيمان بالـشـك، فالعـصاة إذن ما دامـوا متـمـادين في مـعـاصـيهـم فـهـم في ورطـة الشـك ، ويفـسـر هـذا قـول النبي صـلى الله عـليه وسـلم في حـديـثه الصحـيح: (لا يـزني الـزاني حـين يـزني وهـو مـؤمـن ولا يـسرق السارق حـين يسـرق وهـو مـؤمـن ، ولا يشـرب الخـمـر حـين يشـربها وهـو مـؤمـن) ـ رواه البخـاري في كـتاب الأشـربة باب قـول الله تعالى: { إنما الخـمـر والميسـر والأنصاب والأزلام رجـس مـن عـمل الشـيطان فاجـتنـبـوه لعـلـكـم تـفـلحـون} (المائـدة ـ 90).
لأنه مسـلـوب الإيـمان في ذلك الـوقـت إذ لـو آمـن لما فـعـل ، وإذا قال أحـد إنني أعـلم بأن هـذه معـصية تـؤدي بي إلى جـهـنـم ، ولـكـنني ســأتـوب منها ، يـقال له : حـسـنا امـدد للأفـعى اعـتـمادا عـلى كـون الطـبـيـب مـوجـودا ، فهـل يـفـعــل ذلك عـاقـل؟، عـلى أنـنا إذا أخـذنـا أولـئـك العـصاة نجـدهـم أشـد الناس خـوفا مـن المـوت لأنهـم يـعـرفـون مصـيرهـم المحـتـوم.
حـقا إنه لا ينقـضي العـجـب مـن هـذا التقابـل ، وإلا يـقـول الـواحـد مـنا: إن الـكلام عـلى المشـركـين ، (كـما يـزعـم أكـثر الـذين يـفـسـرون كـلام الله بـغـير ما أراد الله) إذ يحـملـون أكـثر ما يجـدون مـن الـوعـيـد عـلى الكـفـرة الـذي يكـفـرون كـفـر شـرك ، فها قـد جـعـل الله تعالى الشاكـين كالمنـكـرين ، والشـك يتجـلى في مـثـل هـذه الصـورة التي كـنا نـذكـرها فـمـن منهـم يـقـول إنني مـتيقـن ، ولا يقـولها أحـدهـم أبـدا لأن العـلم لـو بـلـغ إلى أعـماق الـقـلـب حـيـث محـل اليقـين والطـمأنـيـنة لـرسـخ فـيها ، و لعـمـلـت الجـوارح بـمقـتـضـاه.
ونـحـن نعــتـبر أن العـلم درجـات: إيمان بالجـنـان ونـطـق باللسـان وعـمـل بالأركـان، وإيمان قـــد يـنزل بعـضه إلى القـلـب، ولـكـن ليـس إلى أعـماقـه فـيستـقـر ويرسـخ ، ولـذلك قـيـل أن الطـمأنـيـنة درجـة فــوق الإيمان ، وإن كان ذلك دلـيـل الإيـمان.
.. وللحـديث بقـية إن شـاء الله.

ناصر بن محمد الزيدي