5 ـ بعد الحديث عن أئمة المذهب ينتقل المؤلف لشرح مبادئه ومنظومته العقائدية ،مع مقارنته بآراء الوهابية ،وتبيان الفارق الجوهري بينهما وموجز ذلك :
أ ــ يؤكد الإباضية ضرورة تأويل الصفات الخبرية التي يوهم ظاهرها التشبيه والتجسيم ،ومعهم الأشاعرة ، فالاستواء يعني السيطرة والتدبير والعين والعناية والرعاية والحفظ واليد والقدرة والتأييد والتسديد ،ويبرهن على صحة هذا الاتجاه وأنه يتفق مع التنزيه الإلهي وقوله سبحانه:(لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) (الشورى ـ 11) ،في حين أن الحشوية المجسمة يقولون الاستواء يعني جلوس المولى على عرشه حتى يسمع له أطيط ، وله يد ويدان وأيدي ،وعين وأعين ولكنها ليست كأعيننا .
ب ــ إنكار رؤية الله في الدنيا والآخرة، ويسوق الأدلة النقلية والحجج العقلية التي تؤكد ذلك ويرى أن هذا أنسب للتنزيه ونفي حلوله في المكان.
ج ـ الإيمان بالوعد والوعيد ،فكما أن وعده نافذ كذلك لا يخلف وعيده ؛وهذا مهم في حياتنا العملية لردع القتلة والظلمة والطواغيت والمفسدين في الأرض.
د ـ خلود مرتكب الكبيرة في النار إذا لم يتب من كبيرته ، ويستنكر من يقول بالغفران والخروج من النار دون توبة ، ويرى أن هذا يفضي إلى الفوضى وإنكار قيمة النص القرآني وعبثيته ،ويغري المجرمين والطغاة في التمادي في إجرامهم وظلمهم ،ويدلل بأدلة واضحة من القرآن والسنة والاستدلال العقلي.
هـ ـ إنكار شفاعة الرسول لأصحاب الكبائر ،ويفند الحديث المنسوب للرسول "شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي " ويرى أن ذلك يتناقض مع قوله تعالى:(مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلَا شَفِيعٍ يُطَاعُ) (غافر ـ 18) ،إنما شفاعته لأهل التقى والعبادة الذين تجافوا عن المعاصي والموبقات، وتكون لرفع درجاتهم ،وترقي مراتبهم ومنازلهم، وفي السياق يشرح طبيعة الإيمان أنه اعتقاد بالقلب وإقرار باللسان وعمل بالجوارح عملا يؤدي إلى تهذيب سلوك المسلم ورقي المجتمع ونهضة الأمة ووحدتها.
5 ـ يشرح المؤلف دور الإباضية في التواصل الفكري والعقائدي والفقهي ،وانفتاحهم على كافة المذاهب دون إقصاء مذهب ،أو استبعاده من الساحة.
ويمكن أن نلخص ذلك في أربع قضايا:
أ ــ لم يتوان الإباضية عن الإطلاع على آراء المذاهب الأخرى كافة ؛المالكية والحنفية والشافعية والحنبلية والمعتزلة والزيدية ،وتناول كتبهم بالشرح والتعليق ،والنقد والتأييد والاستفادة منها، على الرغم من أن بعضها تخالفهم في مسائل عقائدية جوهرية وفقهية، ويذكر عشرات الأمثلة بلا مبالغة من فقهاء وعلماء الإباضية من القدماء مثل: أبي سعيد الكدمي وابن خلفون (600هـ) والمحقق سعيد بن خلفان الخليلي (1287هـ) ،إلى العلامة أحمد الخليلي مفتي السلطنة ، مرورا بإسماعيل الجيطالي (ت: 750هـ) وأبي يعقوب المصعبي ( ت: 1187هـ) وقطب الأئمة محمد بن يوسف أطفيش (ت: 1914 ) وغيرهم ،ويذكر عشرات الكتب من المذاهب الأخرى التي اطلعوا عليها وعلقوا عليها وتأثروا بها وأثروا فيها، ليس هذا فحسب بل إن الكثير منهم تلقوا العلم على يد أصحاب المذهب المالكي وبعضهم جمعتهم صلات علمية بمحمد عبده (ت: 1905) وتلميذه رشيد رضا (1935).
ب ـ هذا التسامح الواضح والانفتاح على الآخرين والتواصل الفكري معهم ،يقابل من الوهابية بفتاوى تكفيرية ومحاولات إقصائية و هجوم إعلامي عنيف ،وتحرق كتبهم "ويزعمون أن من السنة ترك مجالستهم وعدم مخالطتهم".
ج ـ السعي إلى تسريع التقريب بين المذاهب ويكون بنفس الدرجة من كافة الأطراف ،وأن يواجه السعي الإباضي بسعي حثيث من المذاهب الأخرى ، وتفعيل قاعدة التعرف و التعارف والاعتراف لردم الجفوة والفجوة القائمة بينهم ، ما دمنا نغترف من نبع واحد ، وعلى الإباضية أن يسعوا للتعريف بتراثهم ويبذلوا جهدا أكبر في نشره بدلا من احتكاره لأنفسهم على حد تعبير الشيخ أحمد بن سعود السيابي.
د ـ مساهمة الإباضية في الكتابة في الفقه المقارن مساهمة فعالة، والمشاركة بقوة في الإنتاج الغزير ، وعدم التقوقع داخل حدود المذهب ، أو الاستعلاء على الآخرين وكتبهم شاهدة على ذلك من أول مدونة أبي غانم الخرساني (القرن 2 هـ ) إلى كافة كتب الشيخ الخليلي مرورا بموسوعة الضياء للعوتبي ومعارج الآمال لنور الدين السالمي ،هذا الانفتاح علي كتب المذاهب الإسلامية ينبئ عن سعة أفقهم ،وسلامة منهجهم واحترامهم لأدلة مخالفيهم في الرأي ، وإيمانهم بأن المذاهب تتكامل ولا تتعارض ، ولا أحد يملك مفاتيح الحقيقة كاملة بمفرده.
6 ـ بعد هذا التنظير والإيراد النظري لجهود الإباضية ،ينتقل المؤلف إلى الإشارة إلى التطبيق العملي للفكر الإباضي في دنيا الناس وحركة المجتمع وإقامة الدول ،ويدلل على ذلك ؛بالتطبيق المثالي لمبادئ الإسلام وقيمه السامية ،من خلال الدول التي أقاموها في اليمن بقيادة طالب الحق عبد الله بن يحي الكندي ( 130هـ )بعد هزيمته للوالي الأموي ،واستبشار أهل اليمن بمقدمه ،وترحيبهم به ،وسيرته الحسنة معهم ؛ومنها عدم استحلال دماء وأعراض وأموال المخالفين لهم ،لأنهم مسلمون ،كذلك أحسن معاملة والي بني أمية وحافظ على حياته من أن يفتك به الناس ،في حين أن الأمويين حينما ظفروا بالفارس الشجاع أبي حمزة الشاري (ت:130 هـ) مثلوا به وصلبوه كسنتهم في التعامل مع المناوئين لهم ،ولم ينس التاريخ قتلهم للحسين ريحانة الرسول ،وسَب الإمام عليّ على المنابر وتشريدهم العلويين ، وهذا ما قام به أيضا العباسيون حينما تغلبوا على الإمام الجلندي بن مسعود فجزوا رقبته وأرسلوها إلى بغداد ،هذه نقطة ، والثانية وزع طالب الحق الأموال المكدسة في خزائن الولاة وأنفقها في المشاريع العامة وعلى فقراء صنعاء ،ومن جهة ثالثة لم يميز في المعاملة بين الإباضيين وغيرهم ،بل تعامل مع الجميع معاملة إسلامية تحفظ حقوقهم وتحترم كرامتهم وتؤمن وجودهم.
إن حوادث التاريخ تؤكد حسن سيرة طالب الحق مع أهل اليمن وحرصه الشديد على تطبيق أحكام الإسلام والاقتداء بسيرة الخلفاء الراشدين ، وتحقيق العيش المشترك للجميع.
ــ ولما كانت مبادئ المذهب الإباضي وحدة كلية واحدة ،ومنهجهم صائب وثابت ،فإن باقي الدول التي أقاموها في المغرب الإسلامي على يد أبي الخطاب وعبد الرحمن بن رستم ،سارت سيرة المبادئ التي تشربوها ونهلوها من أئمتهم التقاة النقاة ،وحرصوا على تطبيق مبادئ الإسلام ؛فرفعوا الجور عن رعاياهم ،ومنعوا العسف والظلم الذي عانوه من ولاة بني أمية ،ثم تحروا الورع والصدق وتطبيق مبادئ العدالة الاجتماعية ،والمعاملة الحسنة مع رعاياهم دون التفرقة بين العرب والبربر أو السنة والشيعة والإباضية ،ومسحوا ذكريات الألم من نفوس البربر من جراء المعاملة المتعسفة معهم وفرض الجزية عليهم, وقد أعجبت الرعية إعجابا شديدا بسيرة هؤلاء الأئمة فمدوا لهم يد التعاون، وحبل المودة ،وأسلموا لهم زمام أمورهم وعاشوا في أمان وإيمان ،وعيش مشترك قائم على التعاون والمحبة، وقد امتد هذا التعاون بين الدولة الرستمية والدولة الأموية الناشئة في الأندلس بسبب وحدة الهدف وهو خدمة الإسلام ،مع تباين المذهب.

قراءة ـ د/ محمد عبد الرحيم الزيني
أستاذ الفلسفة الإسلامية