[author image="https://alwatan.com/v2/v2/wp-content/themes/watan/images/opinion/mohamedaldaamy.jpg" alt="" class="avatar photo" height="60" width="60"]أ.د. محمد الدعمي[/author]
تلك هي العبقريات التاريخية الفذة أو المنسية، للأسف، التي تمكنت أن تفك رموز الكتابة المسمارية Cuneiform المنقرضة كي تمكننا أن نقرأ نصوصا من نوع مسلة حمورابي أو أسطورة جلجامش، وذلك من الآثار واللقى الأثرية والألواح الطينية التي تركها لنا السومريون والأكديون والبابليون، من بين سواهم من الأقوام الرافدينية القديمة التي قطنت جنوب هذا الوادي الخصيب قبل المسيح بقرون عدة.

إذا كانت أفضال "الترجمة" والمترجمين درجة عالية من الأهمية، خاصة في حقول مد جسور التواصل بين الأقوام المتنوعة والتفاهم بين الدول والتلاقح الثقافي، فإن على المرء المساعدة على فتح أعين من لا يفقه طبيعة الترجمة ووظائفها المتنوعة، شكلا من أشكال النشاط الفكري المعقد والحساس وعالي الأهمية اليوم، خاصة وأن قطاعات عريضة من الجمهور (وكما أوردنا هذه النقطة سابقا) لا تفهم حقائق الترجمة والتعريب وصعوباتها وشروطها المسبقة، درجة عدم الاهتمام بدراستها على نحو منتظم، كما فعلت "الجامعة المستنصرية" ببغداد عندما أفردت قسما علميا متخصصا لدراسة وبحث الترجمة (في كلية الآداب) بناءً على الجهود البارزة التي اضطلع بها عميد المترجمين، الأستاذ الدكتور سلمان الواسطي، (قادنا في "فريق الترجمة" ببيت الحكمة البغدادي مذ تأسيسه أواسط تسعينيات القرن الماضي حتى وفاته، رحمة الله على روحه).
وللمرء أن يلاحظ أشكالا متعددة للترجمة على سبيل التعريف بها وبوظائفها، وهي ذات فوائد خاصة بكل منها، حسب الحالات. ومن هذه الأشكال، تمثل أمامنا "الترجمة الفورية" Simultaneous Interpretation، والترجمة التتابعية Consecutive translation، ومن ثم الترجمة الأدبية والترجمة العلمية (بمعنى ترجمة النصوص العلمية المشحونة بالمصطلحات المتخصصة)، علما أن لكل واحد من أشكال الترجمة أعلاه منهجه والقدرات الأساس التي يحتاج المترجم إليها لأداء عمله على أحسن وجه وأعلى فائدة، ومنها إجادة اللغتين، المترجم منها (الأصل) و(الهدف أي اللغة المترجم إليها).
وإذا كانت هناك جمهرة لا بأس بحجمها من المترجمين العاملين في أشكال الترجمة أعلاه (في عالمنا العربي، عامة)، فإننا نعجز (حتى الآن) للأسف عن مقاربة أعقد وأكثر أشكال الترجمة، وأقصد بذلك الترجمة "العمودية" بمعنى ترجمة النصوص المندثرة من "اللغات المنقرضة"، أي اللغات التي لم تعد موجودة في التداول الاجتماعي على الإطلاق. هذا الشكل من الترجمة يتطلب العبقريات الفذة، أي من عيار تلك العقول الجبارة التي ابتنت تجربتها من "الصفر"، حرفيا، كي تفك شفرات لغات كانت قد عاشت وازدهرت آدابها، ثم ضعفت وتدهور استعمالها درجة الانقراض، سوية مع اختفاء الأقوام التي كانت تستعملها وتخطها وتعتمدها أساسا لوجودها ونشاطها الاجتماعي والسياسي والاقتصادي!
تلك هي العبقريات التاريخية الفذة أو المنسية، للأسف، التي تمكنت أن تفك رموز الكتابة المسمارية Cuneiform المنقرضة كي تمكننا أن نقرأ نصوصا من نوع مسلة حمورابي أو أسطورة جلجامش، وذلك من الآثار واللقى الأثرية والألواح الطينية التي تركها لنا السومريون والأكديون والبابليون، من بين سواهم من الأقوام الرافدينية القديمة التي قطنت جنوب هذا الوادي الخصيب قبل المسيح بقرون عدة. وتنطبق ذات الحال، على العالم الفرنسي الفذ الذي فك رموز الكتابة "الهيروغليفية"، كي يترجم النصوص الفرعونية القديمة على سبيل معرفة مراحل تطور الحضارة الآدمية من بداياتها على ضفاف الأنهار العظمى (الرافدين والنيل والسند)، ولكن للأسف الشديد لم يعد أحد يذكر هذه العقول الجبارة التي لولاها ما كنا عرفنا شيئا عن أصول حضارة الإنسان.