[author image="https://alwatan.com/v2/v2/wp-content/themes/watan/images/opinion/ahmedalkadedy.jpg" alt="" class="avatar photo" height="60" width="60"]د.أحمد القديدي[/author]
لماذا لا نزال ندفن رؤوسنا في رمال التغريب، ونجتث جذورنا الحضارية حتى يمنحنا المستعمرون القدامى شهادة (حداثة)؟ فالحداثة الأصيلة هي أفضل من الحداثة الدخيلة ولم تتقدم شعوب الأرض إلا بالحداثة الأصيلة، أي استعمال لغتها الأم واعتماد موروثها الثقافي والقانوني والتربوي..

مؤشرات عديدة تؤكد أن المجتمع التونسي بدأ يعترف بمعضلة مسكوت عنها منذ الاستقلال وهي مخاطر التفكك الأسري بعد أن كنت من بين القلائل الذين أشاروا منذ أمد بعيد إلى ضرورة تعديل القوانين المنظمة للأحوال الشخصية، وكنت أواجه بتهمة الدعوة لتعدد الزوجات، ويعلم الله أني لم أفكر في هذه الدعوة، بل كان ولا يزال همي متمحورا حول المآسي الاجتماعية الناتجة عما أسميه التفكك الأسري وتقليص سلطة الأب كرئيس للعائلة واستحالة الطلاق وما ينجر عن هذه الأخطاء من تشتت الأطفال وضياع الحقوق وتكون المرأة دائما هي الضحية، بينما كانت غاية قانون مجلة الأحوال الشخصية حمايتها وصيانة حقوقها. بدأ المجتمع يستفيق من غفوة طويلة فسمعنا رئيس محكمة التعقيب في افتتاح السنة القضائية يؤكد أمام رئيس الجمهورية أن المحاكم أصبحت عاجزة عن متابعة القضايا لقلة القضاة وكثرة الملفات المطروحة عليها، ونحن ندرك بالإحصائيات أن أكبر عدد ضخم من القضايا هي قضايا الطلاق والنفقة، وأن معدل استمرار هذه القضايا أمام المحاكم هو ثلاث سنوات حتى لو كانت إنشاء بطلب أحد الزوجين. سعدت ببرنامج تلفزيوني على قناة (نسمة) هذه الأيام تناول المعضلة بجدية وعلم ووعي تكلم فيه كل من الأستاذ منذر ثابت والأستاذة سنية زكراوي والأستاذ زهير عزعوزي وهم من أهل العلم وقادة الرأي بعيدا عن التحزب في تحليل ظاهرة التفكك الأسري في تونس مبتعدين عن أدلجة الموضوع كما يفعل اليساريون أدعياء الحداثة وقلة من المتفسخات وخلاصة أقوال المشاركين في البرنامج المتميز هي أن أمراض المجتمع التونسي عام 2017 لا يمكن أبدا علاجها بوصفات قانون 1956 وأن المجلة الجزائية المعمول بها اليوم سنة 2017 هي التي صدرت عام 1913. فقد تغيرت المفاهيم تماما وانقلبت عديد القيم مثل مفهوم (الاعتداء على الأخلاق الحميدة!) أو (الإخلال بالأمن العام) أو (التجاهر بما ينافي الحياء) فكل هذه المفاهيم المطاطة وضعها المشرع في عهد الاستعمار الفرنسي للبلاد التونسية، وكان الغرض منها حفظ المصالح الاستعمارية تحت غطاء الحفاظ على الأخلاق والأمن! ثم إننا اليوم كما قال المتحدثون في البرنامج أمام ظواهر جديدة وخطيرة منها ميلاد 1500 طفل سنوي خارج إطار الزواج بل وإلقاء بعضهم بصفة أسبوعية في القمامة أو أرصفة الشوارع! وتسرب 100 ألف تلميذ سنويا من المؤسسات التعليمية وتفشي ظاهرة انتحار الأطفال (5 في عام 2017) وتفاقم هجرة التوانسة غير الشرعية إلى أوروبا حيث أصبحت ظاهرة عائلية لا فردية وانتشل المنقذون مئات الجثث في البحر كما أنقذوا المئات من الغرق وإلى اليوم يبحث الناس عن أولادهم المفقودين، ثم أضف إلى هذه المعضلات حقيقة غريبة، وهي أن تونس مصنفة الأولى في عدد شبابها المنخرط في التنظيمات الإرهابية، بينما عمل بورقيبة وبعده ابن علي على علمنة البلاد وملاحقة الإسلام التقليدي؟ وتقول الإحصائيات الرسمية إن نصف مليون تونسي يتعاطون المخدرات و40 ألف يستهلكون الكوكايين! فكيف وقع هذا لتونس؟ قال الأستاذ منذر ثابت وهو السياسي الأكاديمي بأن بلادنا تعاني من عدم مراجعة القوانين بسبب تغول تيار فرنكوفوني أصبح متمسكا بشعار المساواة الشكلية بين الجنسين في صورة دوغمائية جديدة لا تريد البحث الموضوعي عن حلول للمشاكل الحقيقية المطروحة، بل تريد مواصلة الغطاء الأيديولوجي لهذه المشاكل، مما أدى بنا إلى حالة تأزم وانفصام نتيجتها تحول العلاقات الزوجية إلى ما يشبه الزواج الكاثوليكي المؤبد (والذي ألغته إيطاليا منذ ثلث قرن) ثم أصدرت محكمة تونسية هذه الأيام حكما بإلزام الزوجة بدفع النفقة، وهو حكم عادل نطق به أحد قضاتنا الأفاضل ما دامت المرأة تطالب بالمواساة الكاملة فلتدفع النفقة إذن مثل الرجل تماما (اللهم لا شماتة كما قال أحد المغردين!) لماذا لا نزال ندفن رؤوسنا في رمال التغريب، ونجتث جذورنا الحضارية حتى يمنحنا المستعمرون القدامى شهادة (حداثة)؟ فالحداثة الأصيلة هي أفضل من الحداثة الدخيلة ولم تتقدم شعوب الأرض إلا بالحداثة الأصيلة، أي استعمال لغتها الأم واعتماد موروثها الثقافي والقانوني والتربوي، وبهذا قفزت كل من تركيا وكوريا الجنوبية وماليزيا وستغافورة (على فكرة رئيسة الوزراء السنغافورية هي السيدة حليمة يعقوب مسلمة محجبة ملتزمة وأصيلة) قفزت هذه الدول إلى صفوف الدول المتقدمة في ظرف عقدين، بينما بقينا نحن مثل عباد الشمس نتخذ من أوروبا مثلا أعلى، ونلثغ بلغتها حتى في مستوى وزرائنا ونخبنا ونستورد قوانينها ونلبس لبوسها ويقف مواطنونا بالآلاف طوابير مخزية للحصول على تأشيراتها، بينما يدخل الأوروبي ببطاقة هوية حتى منتهية الصلاحية. لنبدأ بإصلاح هذه الإخلالات يرحمكم الله لحفظ كرامة التونسي وإنقاذ الأسرة التونسية من التفكك والانهيار (أي الذوبان في الغير)!