(4 ـ 10)

7 ــ كان من المنطقي أن يتوقف المؤلف لشرح دور عمان في تعضيد الوحدة الإسلامية والعيش المشترك مع كافة الدول دون النظر لمسألة المذاهب ،وعاد أدراجه إلى الوراء يستنطق الدول التي حكمت عمان ،وكانت مهمتها الأولى تطبيق قواعد الإسلام، ويشير إلى التسامح الفكري الذي ساد تاريخ عمان دون أن يقع أي نوع من الاقتتال على أساس مذهبي كما رأيناه في التاريخ الإسلامي ،إنما قام القتال فيها على اعتبارات قبلية ،ويتوقف طويلا أمام الدول التي قامت ويشرح دورها في تثبيت حق المواطنة للجميع ،والسعي إلى نزع فتيل الفرقة، وجمع شمل المسلمين، وسوف نستكشف سريعا أبعاد هذه الدول.
أ ـ تولى الإمام الجلندي حكم عمان عام (132هـ ) مستقلا عن الدولة العباسية ،وقد عمل على ترسيخ مبادئ العدل ، ومحاربة الفكر التكفيري الذي حمله إمام الصفرية ،ولم تدم الإمامة لأن السفاح أرسل جيشا قتل الجلندي وقوض أركان الدولة ،ثم تولى الإمام عبد الملك بن حميد (عام 208 هـ) فحاول رأب الصدع بين القبائل ومنع الاقتتال بينهم، ومنع الخوض في القضايا الخلافية منعا للفتن وحفظا على النسيج الاجتماعي، ولما تجاوز أصحاب المذهبي القدري والمرجئة ،وأساءوا للتسامح المذهبي ،منعهم خوفا من إثارة الفتن وشق صف المسلمين وتهديدهم للسلم الاجتماعي دون تكفيرهم.
ب ــ ثم تولى الإمام المهنا بن جيفر عام (226 هـ ) وقد تميز بصلابته في الحق وتطبيقه لمبدأ العدل ، ولما نشبت فتنة خلق القرآن بين علماء الإباضية أنفسهم ، قرر وقف هذا الجدل البيزنطي وهذه السفسطة التي لا طائل وراءها إلا تمزيق نسيج الوحدة الوطنية .هذا من جهة ومن جهة أخرى استغل بعض المخالفين للمذهب التسامح الفكري والمعاملة الطيبة ،فأثاروا مشاعر الناس من خلال الدعاية المذهبية ،وقد أوعز الإمام إلى واليه بمنعهم درءاً للفتنة، ومنعا لزعزعة الاستقرار ،ومن جهة ثالثة وقف في مواجهة من يريد أن يكفر بعض أهل القبلة المجسمة الذين يثبتون الصفات الخبرية دون تأويل.
ج ــ بويع الإمام الصلت بن مالك عام (237هـ ) ويعد من أفضل الإئمة الإباضية ،اشتهر بنجدته للمرأة العمانية التي أرسلت له رسالة مؤثرة عما ارتكبته الأقلية النصرانية التي عاشت في جزيرة سقطري ،في ظل الإمبراطورية العمانية في سلام وأمان ، وقتلهم لوالي الجزيرة وسبيهم النساء وقتل الرجال ،واللافت للنظر هو سرعة نجدة الإمام وتلبيته لصرخة الزهراء ،وعكوفه على تدبيج وصية طويلة لجنوده الذين سيذهبون إلى ميدان المعركة وفيها تتجلى كافة المبادئ الإسلامية ويقتدي بدستور المدينة الذي كتبه الرسول لليهود وكتب الخلفاء الراشدين حينما كانوا يرسمون المنهج السليم لقوادهم وجنودهم ؛ وعلى الجملة فالرسالة تستقي نصوصها من القرآن والسنة في حفظ العهود ،وإقامة شعائر الدين ،وضرورة حسن التعامل مع الأعداء ومنع التمثيل بالجثث،والتحذير من مباهج الدنيا ومغرياتها ،والتمسك بالأخلاق الإسلامية والقيم الإنسانية . وقد حقق الجيش نصرا مؤزرا وفك أسر الرجال والنساء وأخمد أوار الفتنة .
د ـــ الإمام ناصر بن مرشد اليعربي (1024هــ ) مؤسس دولة اليعاربة : بويع من أهل والعقد ، شمر عن ساعد الجد لرأب الصدع الذي أحدثته دولة النباهنة ،وإعادة اللحمة العمانية وقيادة السفينة إلى بر الأمان ،فكتب تاريخا وبنى دولة قوية على أسس إسلامية ،يسود فيها القانون ويحاسب فيها الكبير مثل الصغير ،حارب البرتغاليين وحقق انتصارات باهرة عليهم ،ولم يتوان في خضم الحرب أن يسترد منهم أموال الشيعة التي نهبوها ،ويترك حرية العبادة لأصحاب المذهب الشافعي في منطقة رأس الخيمة التي حررها من البرتغاليين ؛في زمن يسوده التعصب المذهبي ،وهذا يدل على قوة العقيدة وتأكيد مفهوم التسامح ووحدة الأمة ، دون النظر للمذهبية الضيقة .
هـ ــ الإمام سلطان بن سيف: تولى قيادة الدولة عام (1050 هـ) بعد سلفه العظيم ،فوجد أرضا ممهدة ودولة مستقرة وموحدة ،فعكف على تعلية البنيان الشامخ ؛وتجرد لملاحقة البرتغاليين وطردهم خارج الجزيرة العربية حتى وصلت قواته لباب المندب ، وساعد مسلمو الهند وهم حنفية ،وإخوانه في شرق أفريقيا وهم شافعيون ، ومن فضائله أنه لم يفكر مجرد تفكير أن يفرض مذهبه عليهم ،وأمضى حياته في كفاح البرتغاليين .وفي عهده استراحت الرعية ، ورخصت الأسعار وصلحت الثمار وعمرت عمان بالعلماء الأبرار فيما يقول الإمام نور الدين السالمي.
وــ الإمام أحمد بن سعيد وتأسيس دولة آل بوسعيد (1167هـ): بويع الإمام في ظروف داخلية صعبة ،إذ وقع الشقاق بين اليعاربة ، مع عدوان خارجي من جهة الفرس حينما دخلوا أرض عمان، ولما كانت همة الإمام أحمد قوية وإرادته ماضية ،وعزيمته تفل الحديد ،توجه أول ما توجه إلى جمع العمانيين تحت راية واحدة ،ولم الشمل ،وتحقيق الوحدة الوطنية ،ثم انطلق لمواجهة الفرس وطردهم من البلاد ، ومع استقرار أمن الدولة ،وتوطيد أركانها وقوة جبهتها الداخلية وصلابة جيشها ،لم يتأخر الإمام الهمام من تلبية استغاثة أهل البصرة ،و نجدتهم من هجوم الفرس ،دون أن يفرض عليهم أي شروط ،أو يحاول أن يفرض مذهبه عليهم وهم أهل سنة وشيعة ، هذا موقف.
والموقف الآخر إقامة علاقات وطيدة مع الدولة العثمانية ،والوقوف بجوارها في مواجهة أعدائها على الرغم من تباين المذهب.
قال عنه الإمام السالمي: "كان صاحب همة عالية ومطلب سام وجرأة وإقدام دانت له القبائل أطفأ الفتن ،وقام بأمر الدولة وأعطى المملكة حقها ودافع الفرس واستراحت الرعية".
لم تتوقف جهود الدولة البوسعيدية في الانتصار للإسلام ورفع رايته في الآفاق فبعد أن تولى الإمام سلطان بعد أبيه ،وسيطر على قشم والبحرين وبندر عباس وكان معظم سكانها من الشيعة والشافعية ،لم يكرههم على اعتناق المذهب الإباضي وترك لهم حرية العبادة وإقامة شعائرهم دون ضغط أو إكراه .
وكذلك حينما آلت الإمامة لابنه سالم بن سلطان (ت: 1236هـ) عمل على تطبيق الشورى ،فكان يقرب كبار الفقهاء ويشاورهم في أمور الدولة الداخلية والخارجية ،ولما ظهرت الحركة الوهابية وقمعت أصحاب المذاهب الأخرى من المالكية والحنفية والشافعية، وعزلت أئمة الحرم من الشافعية ،طلب الشيخ محمد الزواوي فقيه الشافعية اللجوء إلى عمان فرارا من اضطهاد الوهابية تشاور الإمام مع الفقهاء ورحبوا بإيوائه ،ليس هذا فحسب بل شخص لزيارته وسرى عنه وأكرمه ومدح علمه وقوة شخصيته.
الحقيقة هذا الموقف المتسامح إن دل على شئ فإنما يدل على سعة أفق أئمة وسلاطين عمان ورحابة صدورهم وسلامة منهجهم وصفاء قلوبهم تجاه المذاهب الأخرى وتحقيق مبدأ التعايش السلمي بين أمة الإسلام.
ولاشك أيضا أن الفكر الإباضي كان له دور فاعل في سيادة مبدأ التسامح وعدم التكفير وشيوع الأمن والاستقرار في ربوع البلاد ، وتعميق الحس الديني ،وصبغ الأخلاق العمانية بصبغة التسامح وفضيلة التواضع وترسيخ دعائم التعاون والوحدة بينهم.

قراءة ـ د/ محمد عبد الرحيم الزيني
أستاذ الفلسفة الإسلامية