{قال رب أرني كـيـف تحـيي المـوتى ؟ قـال أولـم تـؤمـن قـال بـلى ولـكـن ليـطـمئن قـلـبي}
الحمد لله الـذي أنـزل عـلى عـبـده الـكـاب ولـم يـجـعـل له عـوجـا ، والصلاة والسلام عـلى رسـول الله صلى الله عـليه وسـلم السـراج المـنـير وعـلى آله وأصحابه الـذين أكـرمهـم الله بصـحـبة رسـوله الطـيبين الطـاهـرين ، وعـلى التابعـين لهـم بإحـسان إلى يـوم الـدين وبـعـد :
فـيقـول العـلماء أن الاطـمـئنان درجـة أعـلى مـن درجـة الإيـمان ، كمـا جـاء عـلى لـسان النبي إبـراهـيم (عـليه السـلام) : { قال رب أرني كـيـف تحـيي المـوتى ؟ قـال أولـم تـؤمـن قـال بـلى ولـكـن ليـطـمئن قـلـبي}(البقـرة ـ 260)، فإبـراهـيـم مـؤمـن إيمانا يقـينيا ولكـن هـنا وراء اليقـين المقـطـوع به شـيء هـو الطـمأنينـة ، وهـذه درجـات لا يعـلمها إلا الله تعالى ، ولـكـننا نحـسها كما يحـس بها الأعـمى ، ولـنـا عـليها أدلة ولـكـن لا نعــرف مـواطـنها ومـواقـعـهـا في القـلـب.
ونـعـود إلى الآيـة ونـزيـدهـا شـرحـا ، لأن الـناس يشـكـون فـيها كــثيرا ، فـكأن الله تعالى يـقـول لـنا : لا تظـنـوا أنني أعـطـيت الشـيـطـان سـلطانا عـليـكـم ، كـلا : فإني لـم أعـطـه سـلـطـان الحـجـة ولا سـلـطـان القـوة والجــبر، فـلا تـدعـوا أنه يجـبركـم عـلى ذلك، ولا تكـذبـوا عـلى الله فـتـقـولـوا : إن الله أعـطـاه سـلطانا ، وأعـطاه قـوة عـليـنا يجـبرنا بها ، وإنما مكـنـتـه مـن الـوسـواس فـقـط ، يـدعـونكم به إلى الكـفـر والعـصـيان ، كـما جـعـلـت لكـم مـلائـكة الإلهـام يـهـدونـكـم ويـرشــدونكـم إلى الإيـمـان وصـالـح الأعــمـال.
والمعـنى الإجـمالي مـن الآية أن نعـلـم أن الله تعالى اقـتضـت حـكـمـته أن يخـتـبر الناس في هـذه الـدار، يأمـرهـم بأعـمال الخـير ويعـدهـم عـليـهـا خـيرا ، وينـهاهـم عـن أعـمال الـشــر ويـتـوعـدهـم عـليها شــرا ، وقال لهـم : هـذا طـريـق الجـنة ، وهـذا طـريـق النار فاخـتاروا ما شـئتـم أي الطـريـقـين تسلـكـوا.
أما قـوله تعالى:{ لـنـعــلم} فإن الله تعالى عـليـم بما يفـعـله الخـلـق قـبـل أن يخـلـقـوا وهـل الله تعالى لا يعـلـم هـذا مـنهـم إلا بعــد أن يخـلـقـوا ، أو لا يعـلم الأشـياء إلا بعــد أن تقـع؟ كـلا ، وإننا نجـد كــثـيرا مـن الآيات ذكـر فـيها عـلـم الله مـثـل قـوله تعالى:{ولـيبـتـلي الله مـا في صـدوركـم، ولـيـمحـص ما في قـلـوبـكـم، والله عـلـيـم بـذات الصـدور} (آل عـمـران ـ 154)، وقـوله تعالى : { قـد يعـلـم الله المعـوقـين مـنـكـم والقـائـلين لإخـوانهـم هـلـم إلـينـا ولا يأتـون البـأس إلا قـليـلا ، أشـحة عـليـكم} (الأحـزاب 18 ـ 19)، وقـوله تعالى: {ولـنبـلـونـكـم حـتى نعـلـم المجاهــدين مـنـكـم والصابـرين ونبـلـو أخـباركـم } ( محمد ـ 31).
فالله يـعـلـم ما كان وما هـو كائـن وما سـيكـون، هـذا الـعـلـم لا يعـلـق الله تعالى عـليه جـزاء خـيرا أو شـرا حـتى يـبرز العـمـل إلى عـالم الشهـادة.
فالله تعالى يعـلم الشـيء بعـلمه الـذاتي لا بعـلـم متجـدد ، فهـو يـعـلـم بأن هـذا سـيعـصي ، ولكـنه لا يـعـاقـبه قـبـل أن يعـصي ، أو قـبـل أن تظهـر مـنه تـلك المعـصية مشـاهــدة ويـراهـا المـلائـكـة ، ويـراهـا الناس ، ويسـتـشهــد عـليه يـوم تـشـهـد عـليهـم أيـديهـم وأرجـلهـم بما كانـوا يعـمـلـون.
هـذا ولله المـثـل الأعـلى ، وإنما لـنـقـرب المعـنى إلى الـفـهـم كـما أنـنـا إذا كـلفـنا بعـض الناس ببـعـض الأعـمال ، وقـلـنـا لهـم : مـن وفى بعـمـله نجـازيه خـيرا ، ومـن خـان نـعـاقـبه ، وهـذا قـد يكـون مـن الأب لأولاده ، أو أسـتاذ لتـلاميـذه مـثـلا ، فـيـقـول الأب : اعـلم أن هـذا الـولـد يـسـير ســيرة حـسـنة وما أعـطـيه مـن مال يجـعـله في مـكانه ، وأما هـذا فـيسير سـيرة سـيئة ، وما أعـطـيه مـن مـال فإنه يـبـدده ويفـسـده ، ولـكـن هــل يسـوغ له أن يـعـاقـبه عـلى حـسـب عـلمه الغـيبي ؟ كـلا ، فـلا يصـح ذلك أبـدا ، وليـس هـذا التصـرف مـن الإنـسان بحـق ولا مقـبـول ، وإنما دعـه حـتى يفـسـد المفـسـد فـتعـاقـبه (ويصلح المصلح فـنجـازيه).
ويضـرب الناس المـثـل بحـمارين انطـلـق أحـدهـما إلى الحـرث فأهـلكه بينما بقـي الآخـر مـربـوطـا ، فـجـاء صـاحـب الحـرث فـضـرب الحـمـار الـذي أهـلك الحـرث ، ثـم زاد فـضـرب الحـمار الـمـربـوط ، فـلما قـيـل له : لما ضـربت هـذا الحـمار الـمـربـوط فـهـو لـم يفـسـد شـيئا؟ قال: لأنني أعـلـم أنـه إن أطـلـقـت سـراحـه فإنه يفـسـد أكــثر مـن الأول.
فهـل هـذا حـق ؟ كـلا : إنه الظـلـم بعـيـنه ، ولله المـثـل الأعـلى ، وتعالى الله عـن ذلك عـلـوا كــبيرا عـن الظـلم ، فإن الله تعالى يعـلـم في الأزل قـبـل الخـلـق مـن يـتـبـع طــريـق الهـدى، ويـطـيـع أوامـره ، وما أوحي به إلى أنبيائه ورسـله ، ومـن سـيسـلك الطـريـق المـردي ويطـيع وسـواس الشـيطان ولـكـنه لا يثـيـب هـذا خـيرا قـبـل أن يعـمـل، ولا يعـاقـب ذلك قـبـل أن يعـمـل ، وإنما يخـلقـون ويـكـونـون أحـرارا وتكـون لهـم عـقـول يخـتـارون بها ، ويـكـونـون كـما قال الله تعالى:{إنا هـديناه السـبيـل أما شـاكـرا وإما كـفـورا } (الإنسان ـ 3)، وقـوله تعالى:{ وهـديناه النـجـدين } (البلـد ـ 10) أي أريناه طـريـق الخـير وطـريـق الـشــر، فـليتـبـع هـو ما يشـاء وما يخـتار، كما قال الله تعالى:{فـمن شاء فـليـؤمن ومـن شـاء فـليـكـفـر } (الكهـف ـ 29).
هـذا معـنى قـوله تعالى:{ لنعـلم }أي:عـلـم شـهـادة ليظهـر عـلمنا الـذي في الخـلـق ، ويــبرز إلى الخـارج مـن يـؤمـن بالآخـرة مـمـن هــو منها في شـك،ومـن يـؤمـن بالآخـرة فهـو الشـكـور المشـكـور، قال الله تعالى:{ وقـليـل مـن عـبادي الشـكـور } والـذين هـم في شـك منها فـأولـئـك هـم الـكافـرون ، وبـعـد الشـك الإنـكار.
ولهـذا جـاءت كلـمة الشـك في المـقـام متـمكـنة فـضـل تمكـن، فالاسـتثـناء في الآية منقـطـع بمعـنى: ما كان له عـليهـم مـن سـلطان ولـكـن لـنعـلـم مـن يـؤمـن ومـن يـكـفـر ، وليـسـت وسـوسة الشـيطان قـهـرا أو جـبرا ، وإنما ابتـلاء مـن الله تعالى ، لأنه يحـب أن يـكـون جـزاؤه للمـؤمـنين بالجـنة ، قـائما عـلى أساس اخـتيارهـم وهـداية عـقـولهـم ،وجـزاؤه للـكافـرين بالنار بمقـتضى اخـتيارهـم لأنهـم لم يعـمـلـوا بمقـتضى الـدين والعـقـل ، وبمـقـتضى ما أنـزله الله أو الهـداية التي هـداهـم الله إليها (عـلي أيـدي رسـله وأنبيائه وخـلفائهـم مـن العـلماء ).
فـلا نخـطي ونقـول: إن الله يـدخـل عـبـدا مـن عـباده الجـنة أو النار بـدون عـمـل ، كـلا : ومسألة القـضـاء والقـدر لا دخـل لنا فـيها ، وللمناسبة أذكـر ما يتعـلـق به بعـض لـ (سـورة الرعـد ـ 31)، إذن : هـو الـذي لا يحـب هـدايتنا ، وإذا عـذبنا فـقـد ظـلمنا ، وإلا فـلماذا لم يـرد هـدايتنا؟.
المشـكل كـبير حـقا ، ولـكـن الجـواب بسـيـط ، وليـس كما يتصورونه مـشـكـلا كـبـيرا ، فـقـوله تعالى :{أفـلـم يا يئس الـذين آمنـوا أن لـو يشـاء الله لهـدى الناس جـميعـا ولا يـزال الـذين كـفـروا تصيبهـم بما صـنعـوا قارعـة ، أو تحـل قـريبـا مـن دارهـم ،حـتى يأتي وعـد الله إن الله لا يخـلـف المـيعـاد} (الرعـد ـ 31)، بمعـنى : لـو يشـاء لجـبرهـم عـلى الهـداية ، فـمـن السـهـل جـدا عـلى الله أن يجـبرك أيها الإنسان عـلى الهـداية ، ويسـد أمامـك كل أبـواب الفـساد ، وحـيثـما تـوجهـت تجـد الباب مـوصـدا ، وينـزع مـنـك نـوازع الشـيطان ، ويسـلب مـنك نـوازع النفـس ولـكـن حـكـمته اقـضـت أن يـكـون هـذا الاخـتلاف فـقال لك:{إن نـشـأ نـنـزل عـليهـم مـن السـماء آية فـظـلت أعـناقهـم لها خاضـعـين}(الشـعـراء ـ 4).
ولـو لا غـريـزة حـب المـرأة والـولـد ما تـزوج الناس ، فأنت أيها الإنسان تحـس بـكل هـذه الاحـتياجات ، ولـكـنني هـيأت لـك المال الحـلال ، والمشـرب الحـلال والمطـعـم الحـلال والمـرأة الحـلال ، وحـرمـت عـليك ما حـرمـت وبـينـت لـك طـريـق الخـير وطـريـق الـشــر، وأعـطـيتـك عـقـلا تفـكـر به وتخـتـار بـين البـديـلات ، وتسـتـطـيـع أن تفـرق به بين الحـلال والحـرام ، وبـين الهـدى والضـلال، وبين الخـير والشـر، ولا أقـودك جـبرا إلى الجـنة ولا أدفـعـك قـهـرا إلى النار، وإنـما تجـزى كل نفـس بما كسـبت.
أما إذا كـنت صـبيا دون البـلـوغ ، أو مجـنـونا معـطـل العـقـل ، فـقـد رفـعـت عـنـك التكـليف ولـسـت مسـؤولا ، وجـاء المثـل:(إذا أخـذ ما وهـب أسـقـط مـا وجـب )، وإذا كـنت مـريـضا أو عـاجـزا فـلا يكـلـف الله نفـسا إلا وسـعـها ، ولـكـن ما سـوى ذلـك فـانـت حـر مخـتـار ، وكل واحـد مـنـكـم يـعـتز بنفـسه ويـقـول بأعـلى صـوته: أريـد وأريـد ، وأريـد ، فإرادتـك هـذه هي التي تـوصـلك إلى الجـنة أو إلى النار.
فـليـس معـنى قـوله تعالى : لو يشـاء لهـدى الناس جـمـيعـا بمعـنى: إن الله أضـلـنـا عـمـدا وجـبرا بالـرغـم مـن أنه بإمكانه أن يحـملـنا عـلى الطـاعـة ويمنـعـنا مـن المعـصية ، فإنه إذا كان الأمـر كــذلك فـليسـت لك أيها الإنسان أية مـنة أو فـضـل إذا فـعـلت خـيرا مـدفـوعـا لأنـك كـنت مـمنـوعـا بالجـبر والقهـر، كالـكلـب إذا قـيـد فـلا يعـض الناس ، أو الحـمار المربـوط فـلـم يهـلك الحـرث ، أو كالمسـجـون الـذي مـنعـه السـجـن مـن السـرقة والظـلـم.
.. وللحـديث بقـية إن شـاء الله

ناصر بن محمد الزيدي