إن رسالة الإنسان في الحياة هي تحقيق مراد الله تعالى؛ فالإنسان لله، وهو راجع إليه، فيجب أن يكيف حياته وفق منهج الله تعالى، وأن يجعل حياته كلها لله رب العالمين، يقول الله تعالى:{إنا لله وإنا إليه راجعون} (البقرة ـ 156)، ويقول تعالى حكاية عن أبي الأنبياء إبراهيم (عليه السلام):{قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين} (الأنعام ـ 162).
والسؤال الذي يطرح نفسه: لماذا استحق الإنسان هذه المكانة، وتبوأ هذه الدرجة من بين سائر المخلوقات؟، وما سر هذه الرسالة العظيمة التي اختص بها من بقية الكائنات؟. أهذا الاستحقاق يكمن في جسم الإنسان وبدنه، أهذا السر يكمن في عمره ووقته؟! أم يعود إلى شيء آخر غير هذا ولا ذاك.
إن الإنسان ليس له قيمة كبيرة من ناحية الزمان، وليس له قيمة كبيرة من ناحية المكان، وليس له قيمة كبيرة من ناحية المادة، التي يتكون منه جسمه، فالإنسان زمانيًا لا يشكل شيئًا يذكر من عمر الحياة الدنيا، مهما عاش، ومهما امتد به العمر، وطالت به السنون، فعمره قصير جدًا سرعان ما يتقضى ويزول، فالإنسان كما عرفه الحسن البصري بضعة أيام، إذا انقضى يوم انقضى بضع منه، على أن هناك مخلوقات أطول من الإنسان عمرًا.
والإنسان مكانيًا لا يشكل شيئًا يذكر من مساحة الكون، مهما عظم بدنه، وزاد وزنه، وتضخمت بنيته، فهو صغير يشغل حيزًا من فراغ لا يكاد يذكر، ويشغل مساحة لا تكاد أن تظهر، على أن هناك مخلوقات أضخم من الإنسان حجمًا، وأكبر منه جسمًا، وأثقل منه وزنًا.
والإنسان ماديًا جسمه مكون من تراب إذ يتألف من مجموعة العناصر التي يتكون منها التراب، فكل عنصر في تراب موجود في بدن الإنسان؛ بحيث لو حُلل جسم الإنسان لوجد مجموعة من العناصر التي يتكون منها التراب؛ بعضها من الحديد، وبعضها من اليود، وبعضها من المغنيسيوم، وبعضها من الفسفور، وبعضها من الكالسيوم وزن هذه العناصر نحو 500 جرام.
يقول الله تعالى:{إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون} (آل عمران ـ 59)، ويقول الله تعالى:{يا أيها الناس إن كنتم في ريب من البعث فإنا خلقناكم من تراب} (الحج ـ 5).
وقد يسأل سائل: كيف نوفق بين الآيات التي تتحدث أن الإنسان خُلق من تراب، وبين الآيات التي يتحدث بعضها أن الإنسان خُلق من طين، وبعضها يتحدث أنه خُلق من حمأ مسنون، وبعضها يتحدث أنه خُلق من طين لازب، وبعضها يتحدث أنه خُلق من صلصال كالفخار، ومن تلك الآيات، قوله الله تعالى:{ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين}(المؤمنون ـ 12)، وقوله تعالى:{ولقد خلقنا الإنسان من صلصل من حمأ مسنون} (الحجر ـ 26)، وقوله تعالى:{إنا خلقناهم من طين لازب} (الصافات ـ 11)، وقوله تعالى:{خلق الإنسان من صلصال كالفخار} (الرحمن 14).
وأقول: لا تعارض بين هذه الآيات فكلها تتحدث عن أن الإنسان خُلق من تراب، إلا أن هذا التراب يتحول من حالة إلى أخرى، أو من صورة إلى أخرى بمؤثر ما، كعنصر الماء، أو عامل الزمن؛ إذ التراب مجموعة من العناصر المختلطة المتفرقة، فإذا خُلط بالماء صار طينًا، فالطين هو التراب المخلوط بالماء، وإذا ترك هذا الطين فترة زمنية تغير لونه، وتعفنت رائحته، فصار حمأً مسنونًا، والحمأ المسنون هو الطين الأسود المنتن، فإذا تماسك هذا الطين الأسود المنتن تحول إلى طين لازب، والطين اللازب هو الطين الشديد التماسك اللاصق، فإذا يبس هذا الطين اللازب وجف، تحول إلى صلصال، والصلصال هو الطين اليابس؛ الذي يخرج صوتًا إذا ضُرب، لأن الصلصلة هي الصوت المتردد، ويكون هذا الصلصال شبيهًا بالفخار؛ أي بالخزف، والفخار هو الطين المحروق بالنار، فالصلصال والفخار كلاهما يابسان يخرجان صوتًا، إلا أن الفخار أكثر صلابة وصوتًا. ويُعرّف الصلصال علميًا؛ بأنه صخر طيني يحتوي على مادة لاحمة هي السَّليكا، وهكذا يتم التوفيق بين جميع هذه الآيات إذ كلها تتحدث عن مادة واحدة خلق الإنسان منها هي التراب.
.. وللحديث بقية.

د/ يوسف بن ابراهيم السرحني