أيهما أفضل الفطر أم الصوم في السفر؟
جاء في الحديث الذي أخرجه الإمام الربيع رحمه الله من طريق أنس رضي الله عنه أنه قال: (سافرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فمنا الصائم ومنا المفطر، فلم يعب الصائم من المفطر ولا المفطر من الصائم)، وروى الحديث الشيخان وغيرهما بلفظ (فلم يعب الصائم على المفطر ولا المفطر على الصائم)، وعلى كلتا الروايتين للحديث حكم الرفع، فأما على رواية الربيع فإنه نفى أن يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم عاب صائما من مفطر ولا مفطرا من صائم، أي لم يقرهم على الصوم وحده دون الإفطار، ولم يقرهم على الإفطار وحده دون الصوم، بل كانوا جميعا سواء في الحكم، وبذلك أقرهم صلى الله عليه وسلم على ما هم عليه.
أما على الرواية الأخرى فإن الحديث يدل على أنهم كانوا متقارين على الصيام والإفطار معا، وكان ذلك باطلاع النبي صلى الله عليه وسلم إذ السفر كان بصحبته، وفي هذا ما يدل على أن هذا الحكم أقره صلى الله عليه وسلم وتقريره صلى الله عليه وسلم كفعله وكقوله، فيعطى الحديث حكم الرفع. أما من حيث الأفضلية فالناس مختلفون في ذلك، فمنهم من فضل الصيام لقوله تعالى: (وأن تصوموا خير لكم إن كنتم تعلمون)، ولكن الاَية ليست نصا في الموضوع، فهي جاءت بعد ذكر الفدية لمن كان مطيقا للصيام، وفي ذلك أخذ ورد بين العلماء، حتى أنهم اختلفوا في هذه الفدية: هل حكمها باق أو هو منسوخ ؟ كما هو مبسوط في كتب التفسير والفقه.
أما الذين قالوا بتفضيل الإفطار على الصيام فقد استدلوا ببعض الروايات منها:
حديث: (ليس من البر الصيام في السفر)، وهو حديث صحيح أخرجه الإمام البخاري من طريق جابر بن عبدالله، ولكن في رواية الحديث ما يدل على السبب، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى رجلا قد ظلل عليه من شدة ما كان يلقى في صيامه، فقال صلى الله عليه وسلم (ليس من البر الصيام في السفر)، أي اذا بلغ الإنسان إلى مثل هذه الحالة.
والحديث وإن استدل به الذين لم يجيزوا الصيام في السفر حتى قالوا: (من صام في سفره كمن أفطر في حضره) أخذا بهذا الحديث، وأمر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه أن يفطروا في عام الفتح، إلا أنه لا حجة في الروايتين على ذلك.
أما حديث (ليس من البر الصيام في السفر) فهو وإن ورد بسبب خاص وكان بصيغة عامة، وقد قال العلماء: (لا عبرة بخصوص السبب مع عموم اللفظ)، إلا أن هنالك قرائن تدل على مراعاة هذا السبب في مثل هذا الحكم عن الجمع بينه وبين الروايات الأخرى، هذه القرائن هي: أن النبي صلى الله عليه وسلم نفسه صام في السفر وأفطر، والصحابة كانوا يصومون ويفطرون، فمع وجود مثل هذه القرائن يتبين أنه عليه أفضل الصلاة والسلام أراد تطبيق هذا الحكم على من وصل إلى هذه الدرجة من الضعف بسبب صيامه في سفره، فليس من البر أن يصوم، ومن العلماء من قال بأن ذلك ليس من البر الذي بلغ حد الكمال، ولا يعني أن ضده فجور، ومثله مثل قول الله تعالى: (لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون)، مع أن الإنسان إذا أنفق في نفقات التبرع من رديء ماله لا يقال بأنه ليس من الأبرار، وأن عمله هذا من الفجور، ولكن ليس ذلك من البر البالغ حد الكمال. وفعله صلى الله عليه وسلم في عام الفتح وأمره لأصحابه بأن يفطروا إنما كان لأجل مواجهة العدو، وقد كان صلى الله عليه وسلم في بداية الأمر أقر أصحابه من أراد منهم الصيام، فقد صام هو وأصحابه حتى بلغوا الكديد فأفطر، وأمر أصحابه بادئ الأمر الإفطار فكانت رخصة كما يقول أبو سعيد الخدري ، ثم قال بعد ذلك: (أنكم مصبحو عدوكم فأفطروا فالفطر أقوى لكم) فكانت عزيمة، أي تحولت الرخصة الى عزيمة من أجل مواجهة العدو، ولا يعني ذلك أن الفطر في السفر واجب على من كان قادرا على الصوم بل هو مخير بين الإفطار والصيام، وإنما يترجح الإفطار عندما يواجه الإنسان مشقة، ويترجح الصيام عندما يكون في راحة من غير مشقة، لأن مشروعية الفطر في السفر من أجل دفع الضرر ونفي الحرج، ومع انتفاء الضرر ورفع الحرج يترجح الصيام في ذلك الشهر الكريم، حرصا على أن يكسب الصائم في ذلك فضل الشهر بجانب كسبه فضل الصيام .. والله أعلم.

يجيب عن أسئلتكم
سماحة الشيخ العلامة احمد بن حمد الخليلي
المفتي العام للسلطنة