عرض ـ حسام محمودلابد لدراسة أفلاطون من قراءة محاوراته التي وضع فيها فلسفته وآراءه ونظرياته ومنهجه في البحث لكن المحاورة نمط خاص من الكتابة الأدبية , وقراءاتها ليست بالأمر اليسير , فهي لم تكتب لتقرأ كما تقرأ الكتب العادية . إنها تنتمى إلى نوع من الأدب الخاص جدا ككنوز تحتاج لتقدير الصائغ , ومنذ زمن بعيد ونحن لا نعرف كيف نكتبها او كيف نقرؤها . ومحاولات أفلاطون ومسرحياته رائعة ونماذجه البديعة للمحاورات الأدبية الحقيقية تمثل نمطا غير معتاد للعبقرية والتفرد , لما لهذا الفيلسوف الكبير والأديب العظيم من موهبة أدبية وثروة لغوية وجزالة فى الأسلوب وجمال فى الوصف وقدرة عبقرية خالقة .محافل أدبيةألكسندر كواريه في الجزء الأول من كتابه هذا يستعرض المدخل الأفلاطوني بشرح وتفسير لنا ماهية المحاورة عند هذا العبقري, وطريقة قراءاتها ودور القارئ فيها ومشاركته لشخصياتها . حيث إن قراءة أفلاطون لذة كبرى , بل هي متعة فائقة , فإن النصوص الرائعة التي يمتزج فيها الكمال الفريد للصورة بالعمق الفريد للفكرة , قد صمدت أمام عوادي الدهر فلم ينل منها الزمن , وبقيت حية على الدوام , حية كما كتبت منذ عهد بعيد , وتلك الأسئلة الملحة حول الفضيلة والشجاعة والتقوى ماذا تعنى تلك الألفاظ فى التعاملات التى عالجها سقراط وواجهت أفلاطون ؟ ولا تزال مجادلة الناس والعلماء حولها قائمة حتى الآن , كما كانت من قبل , وما زالت كذلك تبعث على الحيرة والضيق . ثم يعرض الأستاذ ألكسندر كواريه ثلاثا من محاضرات أفلاطون السقراطية هى مينون , وبروتاجوراس , وتيتاتوس , لكنه لا يقدم عرضا ولا شرحا لهذه المحاورات , وانما هو يعرفنا بشخصياتها الدرامية . ويتناول بالتحليل ما جاء بها من فلسفة أفلاطون , ومنهجه الجدلى فى البحث . وفى الجزء الثانى من الكتاب يتحدث كواريه عن السياسة , والفلسفة عند أفلاطون , وللسياسة كما نعلم شأن خاص عند اليونان , وبالأخص عند الأنثيين , وأولى بذلك ولا شك الشاب الأرستقراطي أفلاطون بن أريستون موعود بحكم مولده بخدمه المدينة وحمل أعبائها . ثم هو يعرض آراء أفلاطون في المدينة الكاملة , والمدن غير الكاملة , ونظم الحكم المختلفة , وما جاء عن ذلك في محاورة قيمت مؤلفات أفلاطون وأطولها أيضا , التى تشتمل على كل شيء أخلاق , وسياسة , وميتافيزيقيا , وتربية , وفلسفة تاريخ , واجتماع . ويتكلم الأستاذ كواريه عن كل ذلك , لا بطريقة الكاتب الأديب , وهو حقا كاتب وأديب , ولكن بطريقة المحاضر الحاذق القدير فالأسلوب رائع ومرح أنيق , وألفاظه جزلة مترادفة , وعباراته محكمة متكررة يلح بها على قراءه ليطمئن إلى حسن فهمهم ووعيهم . ولا شك أن فى قراءة هذا الكتاب فائدة محققة لطالب الفلسفة , ولكل محب للفلسفة , بل ولكل مثقف يهمه الاطلاع على قبس من الفكر اليوناني القديم , الذي ما زال ينير لنا الطريق نحو المستقبل مع استلهام الماضي , وتوضيح حقائق الحاضر أو كما يقول الأستاذ كواريه فى كتابه من أجل هذا كانت دروس أفلاطون ذات أهمية جليلة فى الأدب والثقافة والفلسفة , وكانت رسالة سقراط التى بلغتنا عبر الأجيال تحمل إلينا معنى يتفق والحاضر , إن رسالة أفلاطون مليئة بالتعاليم الجديرة بالتأمل ابان الأزمات التى تهز كيان العالم .عبقرية لا تتكررإن الكمال الصوري لمؤلفات أفلاطون موضع اتفاق , فالعالم كله يعلم أن أفلاطون لم يكن فيلسوفا كبيرا فحسب , وإنما كان كذلك وقد يقول البعض أيضا كان على الأخص مؤرخا فى الكتابة ككاتب عظيم , فكل نقاده وكل مؤرخيه يجمعون الرأي على الإشادة بموهبته الأدبية الفذة التي لا تقارن , وبثروته اللغوية , وجزالة أسلوبه وجمال وصفه , وقدرة عبقريته الخلاّقة . ونحن جميعا نعرف أن محاورات أفلاطون هي مؤلفات مسرحية رائعة تتقابل فيها وتتصادم أمام العيون الآراء والناس الذين يعتنقون هذه الآراء . وكلنا حين نقرأ محاورات أفلاطون نشعر أننا نستطيع أن نمثلها , وان نقوم بأدائها على خشبة المسرح , ومع ذلك فقلما نستخلص منها النتائج التى تفرضها , والتي تبدو لنا ذات أهمية خاصة لتفهم فكر أفلاطون . لكن المسرحيات لا يمكن أن تؤدى فى عالم التجريد أمام مقاعد خاوية . انها تفترض بالضرورة وجود جمهور تخاطبه . وبمعنى آخر إن الدراما أو الكوميديا تتطلب وجود المشاهد أو المستمع والمتابع وليس هذا هو كل شىء , فلهذا المستمع دور في العرض الدرامي فى جملته , دور مهم جدا عليه أداؤه . فالدراما ليست مشهدا والجمهور الذى يعاون فى الدراما لا يتصرف كمجرد مشاهد , انما يجب أن يعمل عقله ليتعاون مع المؤلف لفهم الغرض واستخلاص نتائج العمل الذى يعرض أمامه. ويتعمق فى الأفكار , وينفذ لداخل العمل المسرحي , وهذا ما كان يرمى له أفلاطون. كما أن حراس المدينة الأفلاطونية يوكل لهم مهمة حماية المدينة فهم ملوك فلاسفة لهم قضايا أخلاقية من منظور سياسي , وهبوا حياتهم للدفاع عن المثل والقيم وخدمة المدينة الفاضلة , وهذا يفسر أسلوب الحياة التي عاشها أفلاطون , وهو يبحث عن الذات والمبادئ بالمدينة الكاملة والبلد الخلوقة والناس المثاليين كمنظومة متكلمة يسعى لها الجميع فى المجتمع كرسالة فاضلة يجب بذل الغالي والنفيس للوصول إليها .