آثار الصيام ودلالاته وأبعاده على المسلمين
ـ الصوم تأديب للنفس وعلاج لنفورها وحمل لها على منهج الحق الذي يؤدي بها إلى سلامة الدارين
ـ علينا أن نبدأ بصفحة جديدة من أعمارنا ويكون يومنا أفضل فيه من أمسنا وغدنا أفضل من يومنا

التقى به ـ علي بن صالح السليمي:
قال فضيلة الشيخ عامر بن علي القصابي ـ رئيس قسم الفتوى بمكتب سماحة المفتي العام للسلطنة: إن الله عز وجل لما خلق الإنسان رفع قدره وبوأه غاية التكريم عندما أمر ملائكته بالسجود له في سورة البقرة الآية (34):(وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآَدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ) فكان هذا الأمر إيذانا بأن هذا المخلوق سيكون له شأن مختلف عن بقية الخلق ، وان هناك غاية أعظم ستوكل إليه وهذا ما وضحته الآية (30) من سورة البقرة:(وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ) ولا ريب أن عِظم هذه المهمة دلالة عن مكانة هذا المخلوق الذي ميزه الله بميزات لم تتوفر لغيره فجعل فيه من الملكات والمواهب وركّب فيه من الخصائص وزانه بالعلم كل ذلك ليقوم بما أنيط إليه من دواعي هذا الاستخلاف وذلك في الآية (31) من سورة البقرة:(وَعَلَّمَ آَدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ) .. هذه الخصائص التي ركبت في هذا الإنسان جعلته مؤهلاً لحمل هذه الأمانة التي تثقل حملها على السماوات والأرض والجبال .. كما جاءت الآية (72) في سورة الاحزاب: (إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا) ثم اقتضت حكمة الله البالغة أن جعل ما في السماوات والأرض مسخّرا لهذا الإنسان وأطلق يده فيها في حدود قدرته وطاقاته ومكّنه من استغلالها بما تقتضيه الغاية من وجوده في هذا الجزء من الكون الفسيح .. في الآية (13) من سورة الجاثية:(وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) كل هذا التذليل لمكونات الكون إنما أراد الله أن يتجلى أمر مهم وهو أن العبودية الحقة يجب أن توجه إليه عز وجل وان الوجود يلزم أن تعنى للحي القيوم ولتكون دلائل على وجوده وقدرته وعظمته وجلاله ، كما جاء في الآية (56) من سورة الذاريات:(وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ).
مشيرا إلى ان إن الطبيعة التي ركبت في خلق الإنسان وهي العقل والروح ربما جنحت به ذات اليمين وذات الشمال فركنت إلى الراحة والدعة وسكنت إلى اللهو فاحتاجت إلى ما يقّوم أودها ويحملها إلى الصراط السوي ويردها إلى الجادة ويذكرها بسبب إيجادها والغاية من خلقها فكانت هذه الآيات المبثوثة في صفحات الكون شاخصة أمامه تذكره كلما نسي أو غفل عنها، فبها متسع للعقل أن يتدبر هذه الآيات فتملأه يقيناً وثباتاً، وأما الروح فشأنها شأن آخر فهي لا تشبع نهمها ولا تروي ظمأها الدلائل المادية المحسوسة بقدر ما هي محتاجة إلى غذاء معنوي وهذا لا يكون إلا في العبادات والشعائر لهذا اقتضت حكمة الخالق وهو الخبير بطبيعة المخلوق أن جعل العبادات على قسمين: قسم موجه إلى العقل وقسم موجه إلى الروح، كما جاء في سورة النجكم الآية(32):(الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى)، وفي الآية (14) من سورة الملك:(أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ)، فجعل الله عز وجل من العبادات والشعائر وصنوف الأعمال الصالحة منهلاً ترد إليه النفس ومرتعاً تسرح فيه .. ومن هذه العبادات الصوم وهو موضوع حديثنا، حيث إن الصوم في تعريفه الشرعي هو الإمساك عن أشياء مخصوصة من طلوع الفجر إلى غروب الشمس بنية الطاعة، إذن هو ترويض للنفس تمنع فيه من بعض شهواتها التي كانت مباحة لها وكسر جموحها لتتخلص من أثرتها وحظوظ نفسها لترتقي في مدارك كمالها وتسمو من بعض صفاتها البهيمية إلى الصفات الروحانية والخصائص الملائكية.
وقال الشيخ القصابي: إن شهر رمضان بآياته ولياليه وبكل لحظة من لحظاته لهو فرصة للتغيير والتجديد ليكون نقطة انطلاقة إلى عالم أوسع وأرحب في العلاقة مع الخالق عز وجل أن النفس التي اعتادت على نمط معين من الحياة ربما جعلها تستمرئ الدعة وتركن إلى الخمول والراحة بل ربما انفلتت من حظيرة الطاعة وجمحت عن مسالك العبودية، فكان الصوم تأديباً لها وعلاجاً لنفورها وحملاً لها منهج الحق الذي يؤدي بها إلى سلامة الدارين.
مشيرا إلى أن أيام رمضان أيام معدودات، كما قال الله تعالى في الآية (183) من سورة البقرة:(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ)، وأيام هي (جمع قلة)، والمعدودات كناية عن القلة أيضاً لأن الشئ القليل يعد عدّاً ولذلك يقولون الكثير لا يعد، لهذا كان حريٌّ بالعاقل أن يحرص كل الحرص بأن لا تفوته لحظة من لحظات هذا الشهر المبارك أو أن تفلت منه ساعة من ساعاته إلا وقد أحسن استغلالها.
وقال: وبما أن رمضان فرصة للتغيير ـ كما ذكرت سابقا ـ فنحن نحتاج ان نضع أمامنا عدة جوانب يشملها هذا التغيير، ومن أهم هذه الجوانب: تجديد علاقتنا بكتاب الله عز وجل واقصد بالتجديد ليس بكثرة تلاوته فحسب وإنما بتدبر معانيه وأحكامه والنظر في وجوه إعجازه ودقائق مقاصده وحكمه ومواعظه ولا يتوصل إلى هذه الغاية إلا بالتدبر اذ هو الغاية من تلاوته، كما في الآية (24) من سورة محمد:(أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآَنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا) وإنما يحصل هذا المقصود بفهم معانيه ويستعان بالرجوع إلى كتب التفسير، وكذلك المحافظة على الصلوات في أوقاتها وحضور الجماعات وهي من اجل الأعمال وأفضلها وهي سيماء المتقين وصفة الخاشعين، كما ورد في الآية (45) من سورة البقرة:(وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ)، وكذلك المداومة على قيام الليل بالتهجد وهو سنة وفضيلة وهي من صفات أهل الإحسان، في الآيات من (16) الى (18) من سورة الذاريات:(آَخِذِينَ مَا آَتَاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ، كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ، وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ) وهذه سنة وفضيلة تركها كثير من الناس وهي لعمر الحق من اجل العبادات وهي شاقة إلا على من وفق إليها، وذلك في الآية (6) من سورة المزمل: (إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا)، وكذلك صلة الرحم وذوي القرابة وخاصة أن هذا الزمن قد انشغل الناس فيه بالدنيا فألهتم بزينتها وحطامها فأشغلتهم عن كثير من الحقوق الواجبة عليهم وأنستهم ما كلفوا به من صلة الرحم ومراعاة أسباب الوشائج التي تربطهم مع تعدد الآيات التي تحث على ذلك والأحاديث الواردة في التحذير من قطيعة الرحم، ولا ننسى من ضمن تلك الجوانب (الإنفاق في سبيل الله)، إذ أن المال إذا تملك قلب الإنسان فانه يحوله إلى سبع مفترس لا يبالي بطرق جمعه فلا يشفق لحاجة محتاج ولا لمسغبة جائع ويحول قلبه إلى صخرة صماء لا تنبت إلا الجشع والأثرة ، ولذلك كان الصوم وهو يلهب أحشاء الغنى بحرارته ويجلده الجوع بسياطه مدعاة لتذكره حال الفقراء والبؤساء والمحرومين من هذا المال الذي يملكه ويستظل بظلاله فيدعوه للعطف عليهم والشفقة لهم وهذه بعض حكم الصوم التي شرعت لأجله.
وهنا يتساءل الشيخ عامر القصابي قائلا: ولكن ماذا بعد رمضان؟ ماذا بعد هذه المكاسب التي تحققت لنا وجنينا ثمارها اليانعة؟ .. فبما أن الغاية من وجوب الصوم هو حصول التقوى الذي هو مظهر العبودية لله عزوجل:(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) فان مضيّ شهر كامل على ترويض النفس بتخليها عن رذائل الصفات وتخليها بمحاسنها وحملها على الخشوع والتذلل لخالقها والمتفضل عليها والمسارعة فيما يرضيه والحرص على ترك ما يسخطه ويغضبه .. هذه الأيام المعدودات كفيلة بأن تجعل هذه النفس الجموح تسلم لصاحبها اللجام، فلا تجفل من طاعة ولا تنفر من معروف فان كان حالها كما ذكرت فمن الحكمة ان ننأى بها بعد ذلك عن مواضع الشبهات وان نبعدها عن مواطن الريب وإلا نسومها حول الحمى لئلا تحن لطبعها السابق من مذموم الصفات التي تطهرت من أرجاسها بطهور الصوم.
وفي ختام حديثه قال القصابي: إن الله تعالى قد منًّ علينا من فضله ووفقنا لصوم هذا الشهر فعلينا أن نبدأ بصفحة جديدة من أعمارنا ويكون يومنا أفضل فيه من أمسنا وغدنا أفضل من يومنا، فإن تنافس الناس في متاع الدنيا فنافسهم أنت بما عند الله وما عند الله خير وأبقى .. (خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ)،(وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ، أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ، فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ).