{ولـو يشـاء الله لهـدى الناس جـميعا}
الحمد لله الـذي أنـزل عـلى عـبـده الـكتـاب ولـم يـجـعـل له عـوجـا ، والصلاة والسلام عـلى رسـول الله صلى الله عـليه وسـلم السـراج المـنـير وعـلى آله وأصاحـبه الـذين أكـرمهـم الله بصـحـبة رسـوله الطـيبين الطـاهـرين ، وعـلى التابعـين لهـم بإحـسان إلى يـوم الـدين وبـعـد :
فـيقـول الله تعـالى:{ولـو يشـاء الله لهـدى الناس جـميعا} حـقا لـو شـاء الله أن لا يعـصيه أحـد ، ما استـطاع أن يعـصيه لـو حـاول، وهـل الـذين عـصوه قـد غـلـبـوه؟ كـلا، فإياكـم أن تـشـكـوا في مـسألة القـدر، وإنما الـذين يـشـكـون وينـطـمس عـليهـم الحـق فـلضـعـف إيـمانيهـم وسـوء تـفـكـيرهـم، وعــدم التحـقـق مـن المعاني الحـقـيقـية.
وإلا فالأصـل هـو أن الله تعالى خـلـق البهائـم والحـيـوانات وركـب فـيها شـهـوات بـلا عـقـول ، فهـي تأكـل وتشـرب وتـتـوالـد وليست مـكلفـة بشيء إذ ليـس في حـياتها حـلال وحـرام، كـما أن الله تعالى خـلـق المـلائكـة عـقـولا بـلا شـهـوات قـال الله تعالى:{ لا يعـصـون الله ما أمـرهـم ويـفـعـلـون ما يـؤمـرون} (التحـريم ـ 6).
وجعـلهـم عـبادا مـكـرمـين:{ يسـبحـون اللـيـل والنهـار لا يفـترون } (الأنبياء ـ 20)، أما نحـن بني آدم فخـلـقـنا الله خـلـقا وســطا، فإما أن نـرقى إلى أفـق المـلائكـة باخـتيارنا ، أو أن ننـزل إلى دركـة البهـائم باخـتيارنا كـذلك ، فأين القهـر والجـبر ، سـواء مـن الله أو مـن الشـيطان؟، فـهـذا البـيان إذن يعـطـينا ضـواء مبـينا لهـذه المسألة التي ضـل فـيها كـثير ولا يـزالـون.
والله تعالى يحـفـظ كل شيء ، ولا يضـيع شـيئا ، يجـازي الـذين صـدق عـليهـم إبليـس ظـنه مـن الكـفـار والمنافـقــين والعـصـاة، إن ماتـوا مصـرين عـلى معـاصيهـم إنما أعـد لهـم مـن العـذاب الألـيـم، وهـم الكـثـيرون ويجـزي الله الشـكـورين القـليـلـين مـن فـضله ( بالنعـيـم المقـيـم).
قال الله تعالى:{ قـل ادعـوا الــذين زعـمتـم مـن دون الله لا يملـكـون مـثـقـال ذرة في السمـوات ولا في الأرض، وما لهـم فـيهـما من شـرك وماله منهـم مـن ظهـير}(سـبـأ ـ 22).
وقال تعالى:{ قـل ادعـوا الـذين زعـمـتـم مـن دون الله}، الخـطاب مـوجـه للنبي صلى الله عـليه وسـلم أن يقـول للمشـركين يـومـئـذ بمكـة وغـيرهـم مـن المـشركـين العـرب الـذين يـعـبـدون الأوثان مـن دون الله.
قـيـل مـن أسباب نـزول الآية أن الله تعالى حـبـس عـنهـم المطـر زمـنا طـويلا فـضاق الأمـر عـلى قـريـش فـتحـداهـم بهـذه الآية ، لأنهـم كانـوا يلتجـئـون إلى آلهـتهـم يعـبـدونها ويتـزلـفــون إليها بالـقـرابـين والصـدقات، فـقال لهـم : إذا قـلقـتم مـن انحـباس الـمـطـر ، واشـتـد بكـم الأمـر فادعـوا آلهـتـكـم التي تعـبـدونها من دون الله ، وانتظـروا هـل ينفـعــونـكـم أو يكـفـون عـنـكـم الضـر أم لا ؟.
وأكـثر المفـسرين عـلى تقـدير كلمة (آلهـة) بعـد قـوله:{ قـل ادعـوا الــذين زعـمتـم مـن دون الله }أي: الـذين زعـمتـم أنهـم آلهـة مـن دون الله ، ولـكـنـنا نـرى عـدم ذكـر الآلهـة أبلـغ ليعـم كل مـن كان يـرجى منه نـفـع وهـو لا يملكـه، أو يـرجـى منه دفـع ضـر وهــو لا يسـتـطـيع ذلك، لأنهـم جـميعـا كما قال الله تعالى : { قـل مـن رب السـموات والأرض قـل الله قـل أفـاتخـذتـم مـن دون الله أولـياء لا يمـلكـون لأنفـسهـم نـفـعـا ولا ضـرا ، قـل هـل يسـتـوي الأعـمى والبـصير أم هـل تستـوي الظـلمات والنـور، أم جـعـلـوا لله شـركاء خـلـقـوا كخـلـقـه فـتـشابه الخـلـق عـليهـم ، قـــل الله خـالـق كل شيء وهـو الـواحـد الـقـهـار} (الرعـد ـ 16).
والقـرآن الكـريـم مليء بمـثـل هـذه الآيات ، فـأولـئـك المشـركـون الـذين يتقـربـون إلى الأوثـان والصلبان قـد عـبـدوا الجـن وعـبـدوا المـلائكـة وعـبـدوا ما ينحـتـون مـن الصخـور والأخـشـاب والمعـادن، ولـكـن التعـلـق في رجـاء الـنـفـع أو دفـع الضـر تخـتـلـف درجـاتـه ، ومـن العـجـيب إذا حـزبهـم أمـر أو أصابتهـم شــدة فـلا يـدعـون آلهـتهـم وإنما يـدعـون الله أن يـفـرج عـنهـم كـربهـم ويـزيـل غـمـومهـم 0
ولنفهـم سـر عـدم ذكـر الآلهـة تـلك المعـبـودات التي تعـبـد مـن دون الله ويـرجـو منها جـلـب النفـع وكـشــف الضـر متعــددة ومخـتـلفـة ، منها ما يعـبـد صـراحـة ويعـتـقـد فـيه الألـوهـيـة الحـقـيـقـية ، وما دون ذلك مـن صـور مخـتـلفـة وأشـكال متعــددة ، إلى هـذه القـباب والأضـرحـة والقـبـور ، والأسـماء التي يسـميها الناس ما أنـزل الله بها مـن سـلطان يـرجـى نفـعـها ، ويخـاف ضـرها ، وإن كانـت لا تعـبـد عـبادة صـريحـة ، لأن أهـلها لا يـزعـمـون أنها آلهـة ، وهـذا مـا ابتـلي به أكـثر المسلمـين وغـيرهـم ، لأنهـم يـرجـون منها ما هـو فــوق طاقـة المـخـلـوق وقـدرته.
ونـحـن نقـول : إن الاسـتعـانة بالمخـلـوق فـيما هـو داخـل في اسـتطاعـته لا يمسى عـبادة ولا تأليها ولا ما يشـبه ذلك ، فإذا قـلـت لإنسان : أعـني عـلى رفـع هـذا الحـمـل الثـقـيـل ، أو أقـرضني مـبـلغـا مـن المال ، أو أعـني بـرأي وتـدبـير أو بقـوة بــدن فـكل ذلك داخـل في اسـتطاعـة البـشـر، وهـذا تـعـاون ( مقـبـول ومـرغــوب فـيه شـرعـا ) أمـرنا الله تعالى به بقـوله:{ وتعـاونـوا عـلى الـبـر والتـقـوى ولا تعـاونـوا عـلى الإثـم والعــدوان واتقـوا الله إن الله شـديـد العـقـاب } (المائدة ـ 2 )، أما طـلب شيء مـن الأمـور الغــيـبـيـة مـن مخـلـوق فـهـذا الـذي يـدخـل في باب العـبادة ، ولـو أن الـذي يـرجـى مـنه لا يسمى إلها كالقـبة والـقــبر والضـريـح والـتـولي وكل هـذا حـرام.
قـل ادعـوا الـذين زعـمتـم أنهـم يملكـون لكـم نـفـعـا أو يكشـفـون ضـرا ، وهـم إمـا جـمادات لا تملك لنفـسهـا نـفـعـا ولا ضـرا ، وإما أمـوات ذهـبـوا إلى ربهـم سـواء أكانـوا صـلحـاء أم غــير ذلك ، بـل حـتى ولـو كانـوا أنبيـاء ومـرسـلـين ، فـقـد ماتـوا وانقـرضـوا ، ولم يـبـق لهـم عــمـل يعـملـونه في هـذه الحـيـاة الـدنيا : كل أولـئـك لا يجـوز أن يسـالـوا ما لا يمـلـكـون ، ولـنـفـهــم النكـتة جـيـدا لأن هـنـاك أمـورا لا تسـأل إلا مـن الله الـواحـد الـقـهـار، وإذا سـئـلـت غــير الله فـقـد سـويت ذلك المخـلـوق بالله ، وسـيأتي يـوم يقـول الـوثـنيـون :{ تا لله إن كـنا لـفي ضـلال مـبين 0إذ نسـويـكم بـرب العالمين 0 وما أضـلنا إلا المجـرمـون} (الشـعـراء97 /99)، بمعـنى: جـعـلـنـاكـم في درجـة الله ، نـرجـو مـنكـم ما لا يـرجـى إلا مـن الله ونخـاف مـنكـم ما لا يخـاف إلا مـن الله.
ولـكـون أولـئـك الـذين يـرجـى مـنهـم الـنـفـع أو يخـاف منهـم الضـر درجـات مـتـفـاوتــة ، وأنـواعـا مخـلفـة ، مـن المعـبـود الـذي يسمى إلها إلى المعـبـود الـذي لا يسمى إلها ، لـم يـنـص في الآية عـلى الآلهـة لأنهـم جـميعـا معـنيـون ، ثـم أجـاب الله تعالى فـقال : { قـل ادعـوا الـذين زعـمتـم مـن دون الله لا يملـكـون مثـقال ذرة في السمـوات ولا في الأرض ومالهـم فـيهـما مـن شـرك وما لهـم منهـم من ظهـير } (سـبأ ـ 22).
قـطـع الله تعالى عـنهـم كل سـبب يمكـن أن يتعـلـق بها الإنسان كحـجة عـلى أن لـهـذا المخـلـوق قـدوة عـلى الـنـفـع والضـر ، فأولـئـك الـذين تـرجـونها وتطـلبـونهـا لتـدفـع عـنكـم البـلاء وهي لا تـملك أن تـدفـع عـن نفـسها ولـو مثـال ذرة ، والـذرة جـزء ضـئيـل صـغــير مـن المخـلـوقات لا في السـمـوات ولا في الأرض ، وهـذا تحـد كـبير مـن الله تعالى كما قال في آيـة أخـرى : { قـل أرأيـتـم شـركاءكـم الــذين تـدعـون مـن دون الله أروني ماذا خـلـقـوا مـن الأرض أم لهـم شــرك في السمـاوات أم آتـيـنـاهـم كـتابـا فهـم عـلى بـينـة مـنه بـل إن يـعــد الظـالمـون بعـضهـم بـعـضا إلا غـرورا } (فاطـر ـ 40).
فـهـم لا يملكـون ملكا مسـتقـلا لــذرة في السـمـوات ولا في الأرض ، ولا يمـلكـون ملـكـية شــراكة مـع الله كما قال الله: { ومالهـم فـيهـما مـن شـرك ومـالهـم من ظـهـير} (سـبأ ـ 22).
وهـذه المخـلوقات التي يعـبـدونها من دون الله هي مخـلـوقـة لله مسخـرة له سـبحانه وتعالى ، وهي بـريئة مـن هـذا الـشـرك ولا تـرضا ه ، بل هـي أعـبـد لله و لـذلك يناقـشهـم الله تعالى في هـذه المسألة بقـوله :{ قـل ادعـوا الـذين زعـمتـم مـن دون الله}(سبأ ـ 22)، ادعـوا هـذه الآلهـة المـدعـاة ، لـكـنهـم لـم يـدعـوا لعـلمهـم أن آلهـتهـم المـزعـومة لـن تجـيب لـذلك أكمـل الله لهـم وأظهـر لهـم النتيجـة ولـو دعـوتم هـذه الآلـهـة فإنهـم :{لا يملكـون مثـقال ذرة في السـموات ولا في الأرض} (سـبأ ـ 22)
.. وللحـديث بقـية إن شـاء الله.

ناصر بن محمد الزيدي