تظل ذكرى مولد خير البشر محمد صلى الله عليه وسلم ذكرى عظيمة، فهذا اليوم الذي شهد مولد هادي الأمة وخاتم الرسل هو أعظم أيام الله في تاريخ الإسلام، وذلك بالنظر إلى ارتباط هذا الحدث بإيذان الله أن تُنتشل هذه الأمة من براثن الجاهلية وظلمات الجهل إلى مرابع الهداية والنور واليقين، وأن يعم الدنيا عامة وشبه الجزيرة العربية خاصة الخير والرخاء والاستقرار والأمان والطمأنينة، وأن يعلم الناس مكانتهم في الحياة وهدفهم فيها، وأن تطمئن الأنفس وتهدأ وتصفو، ويتطهر القلب مما ران عليه من أحقاد وبغضاء وشحناء وعداء وغير ذلك، وأن يعلموا معنى علاقتهم بخالقهم وعلاقتهم بأنفسهم وآبائهم وأزواجهم وأبنائهم وإخوانهم وأرحامهم، وأن يعلموا معنى علاقتهم بمجتمعهم وأفراده، وما يجب أن يتوافر في هذه العلاقة لتكون علاقة قائمة على الخيرية والألفة والمحبة واحترام الحقوق وعدم الاعتداء، وذلك لكي تستقيم حياتهم وتستقر أحوالهم، ويطيب عيشهم وتنتظم علاقتهم لا تشوبها شائبة ولا يكدرها كدر.
وتظل ذكرى المولد النبوي ذكرى عظيمة، تكتسب عظمتها من النتائج التي ترتبت على هذا الحدث بتكليف المصطفى محمد صلى الله عليه وسلم بتبليغ رسالة الإسلام وشرع الله، وقبوله تحمل هذه الأمانة العظيمة، حيث تمكَّن عليه أفضل الصلاة وأزكى التسليم من تبليغ الأمانة؛ فنقل الناس من حالة دنيا إلى حالة عليا، وبزغ نور الإسلام ليعم الأرجاء وقضى على مظاهر الشرك والرباء واستحلال الدماء بغير حق، وأرسى قواعد عمل وأخلاقيات وسلوكيات جديدة، وأقر ما يتناسب مع شرع الله وروح الإسلام من أخلاق وسلوك وعادات وتقاليد، ورفض ما يتنافى مفصلًا في ذلك الحكمة من الإقرار والرفض ليكون الناس على بينة وهدى واقتناع، وبفضل ذلك سادت الفضائل وغابت الرذائل، وانهدمت مظاهر الشرك وعبادة الوثن والصنم.
ومثلما كان مولده صلى الله عليه وسلم مؤذنًا ببدء رسالة الإسلام الهادية للبشر، كان في سلوكه أبرز مواطن الموعظة الحسنة، حيث ضرب صلوات الله وسلامه عليه أروع وأنبل المُثل والأخلاق وأجمل الصفات، فكان قرآنًا يمشي على الأرض، كيف لا؟ وهو الذي امتدحه الله سبحانه وتعالى بقوله: "وإنك لعلى خلق عظيم". وحين سئلت السيدة عائشة رضي الله عنها عن خلقه قالت: "كان خلقه القرآن".
لقد شكل سلوك النبي محمد صلى الله عليه وسلم وصفاته وأخلاقه ركيزة مهمة في نشر رسالة الإسلام؛ فأخلاقه وصفاته هي مضرب المثل، والسيرة النبوية العطرة تحفل بالمواقف والشواهد العديدة على الدور الكبير لأخلاقه وصفاته وسلوكه في اعتناق الناس الإسلام، لما رأوه في سماحة خلقه وتواضعه ولين خطابه وحكمة تعامله. كما كان من حوله الصحابة يأتمون به ويأتمرون بأمره ويصدقونه فيما يقول دون أن يطلبوا منه الدليل المادي على كل موقف أو آية تتنزل عليه. كان صلى الله عليه وسلم صادقًا صدوقًا وكانوا من حوله طائعين مصدقين، فغدت الرسالة التي صبروا من أجلها تطبق الآفاق وتستقر في النفوس حتى الأعماق. إلا أنه ورغم هذه السيرة العطرة للنبي صلى الله عليه وسلم ولصحابته الكرام، وسماحة الإسلام ورحمته بالناس، فإن الإسلام بات يشكو من أمته بسبب ممارسات لا تتفق وروح الإسلام وسماحته، ولا مع أخلاق رسولنا الكريم عليه الصلاة والسلام وصفاته وشمائله، فهناك فئات محسوبة على الإسلام ـ للأسف الشديد ـ لا تزال تواصل ممارسة سلوكياتها الشائنة ومعتقداتها الباطلة، وتحاول أن تقنع الآخرين بأنها من الإسلام، مع أنه براء منها، فأساءت إليه أيما إساءة، وركبت سفن أعداء الإسلام وأعداء أتباعه، وتخندقت في خنادقهم. لذلك ما أحرى هذه الأمة وهي تحيي ذكرى مولد رسولها الكريم محمد صلى الله عليه وسلم أن تتحرك لتعيد الألق والنور لأمة الإسلام كما كانت في عهد الرسول عليه الصلاة والسلام وخلفائه الراشدين، وأن تتمسك بهدي الكتاب المبين الذي "لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، تنزيل من حكيم حميد"، وأن تتأسى بهدي نبيها وأخلاقه. فهذه الذكرى الخالدة لمولد سيد الأنام التي نعيشها هذه الأيام تمثل فرصة طيبة للمراجعة ولمذاكرة الدروس والعبر والأخلاق والقيم والمبادئ والتسامح والعدالة والوسطية.