( مـن ينابيـع القـرآن )

ناصر بن محمد الزيدي
الحمد لله الـذي أنـزل عـلى عـبـده الـكـتاب ولـم يـجـعـل له عـوجـا ، والصلاة والسلام عـلى رسـول الله صلى الله عـليه وسـلم السـراج المـنـير وعـلى آله وأصاحـبه الـذين أكـرمهـم الله بصـحـبة رسـوله الطـيبين الطـاهـرين، وعـلى التابعـين لهـم بإحـسان إلى يـوم الـدين وبـعـد :
فالخـيانـة خـلـق سـيء وصـفة مستهجـنة ، ولا يمـكـن أن تصـدر مـن المـؤمـن الـذي يـراقـب الله في ســره وعـلنـه ، ويـقـابـل الخـيانـة الأمـانـة ، والأمـانـة لها مجـالات واسـعـة لا تقـتصـر عـلى المال ، فالصـوم أمانة والعـمـل أمانـة والأولاد أمانـة ، وحـفـظ الأسـرار أمانـة ، والمجـالس وما يــدور فـيها أمانـة ، ونـقـل الأخـبار أمانـة 0
قال الله تبارك وتعالى : { يا أيها الـذين آمنـوا لا تخـونوا الله والـرسـول وتخـونـوا أماناتكـم وأنتم تعـلمـون } سـورة الأنفال27 ، والخيانة ضـد الأمانة ، والأمانة هي الشيء الـذي يسـتـودعـه إنـسان عـنـد آخـر بـدون وثـيـقة عـليه تـثبـت ذلك ، ولا شـهـود يشـهـدون ، بـل الأمـر مـتروك إلى مـن عـنـده الأمانة ، إن شـاء أقـر بها وإن شـاء جحـدها وأنكـرها ، لأن الأمانة لا يـكـون عـليها صـك يـلـزم المـؤتـمـن ولا عـليها شـهـود يشـهـدون بـذلك ، وغـير محـكـومة بأي شيء إلا ذمـة مـن ائتـمـن ، والله سـبحانه وتعالى يـقـول : { إنا عـرضـنا الأمانـة عـلى السمـوات والأرض والجبال فأبين أن يحـملـنها وأشـفـقـن منهـا وحـملها الإنـسان إنـه كان ظـلـوما جهـولا }سـورة الأحـزاب 72 0
الأجـناس التي في الـوجـود دون الإنـسـان مـن حـيـوان أو نبات أو جـماد كلها مسخـرة ولا تملك الاخـتيار في أن تـفعــل أو لا تفـعــل ، الشمس لـيـس لها اخـتيار أن تقـول : سـأشـرق اليـوم عـلى هـؤلاء الناس أو لـن أشـرق الـيـوم ، والهـواء لا يـمـلك إرادة الاخـتيار وكل الـكائنات التي أوجــدهـا الله في هــذا الـوجـود ما عـدا الإنسان مسـخـرة للمـؤمـن و للـكافــر، فـرفـضـت كل تـلك الـكائنات العـرض عـن أن تحـمـل أمـانـة الاخـتيار ، لـكـن الإنسان قال : أنا لي عـقـل يخـتـار بـيـن البـديـلات وأقـبـل تحـمـل الأمانة، وسـوف أؤدي كل مـطـلـوبات الأمانة لأني أقــدر وأحـسـن الاخـتيار0
لـكـن الإنسان ادعى لـنفـسه القـدرة عـلى أداء الأمانة ، وكأنه قــد وثـق مـن نفـسـه أنه سـيـؤديها ، وهـو لا يعـلـم تـبـعات ذلك الحـكـم الـذي حـكـم به عـلى نفـسه ، فـكان حـكـمه ذلك الحـكـم عـلى أمـر غـيبي مستقـبلي 0 لا يعـلـم كـيـف تكـون حالته وقـت طـلب أداء الأمـانـة صحـيح أنه سـاعـة التحـمـل كان في نـيـته أن يـؤدي الأمانة ، لـكـن ماذا عـن سـاعة الأداء ؟ إنه غـيب مجهـول الحال 0
وهـو لا يـعـرف ما تجـيء به الأحـداث والأغـيار مـعـه ، فـقـد يأتي لـه ظـرف يضـطــر أن يتـصـرف في الأمانة، وقـد يأتي صـاحـب الأمـانـة يـريـد أن يسـتردهـا ، ولـكـن يـفـاجـأ بأن المـؤتمـن قـد تصـرف في الأمـانـة ، فـهـذا هـو الجـهـل الـذي مـا كان يعـلمـه مسـبـقا بشـأن الأمانـة ، لـذلك تجـد العـاقــل يـتجـافى عـن حـمـل الأمـانـة ويقـول : أبعــد عـني أمانة الاخـتيار لأني لا أعـلم ماذا سـتـفـعــل بي الأغـيار لحـظـة الأداء ، وكل ما دون الإنسان أعـلـن عـدم تحـمـل الأمانة ، وقـبـل التسخـير 0
أما الإنسـان فأعـلـن قـبـول الأمانة , ظـانـا أنه سـيـؤديهـا عـنـد مـا يـطـلب منه أداؤهـا فـلـذلك وصـفه القـرآن الكـريـم بقـوله : { إنه كان ظـلـومـا جهـولا }، ظـلـوما لنفـسه حـين قـبـل حـمـل الأمـانـة أولا ، و( جهـولا )لأنه لا يعـلـم كـيـف تكـون ظـروفـه وقـت الأداء مـن تغـير أحـواله ، لأن الإنسـان ابن الأغـيـار، تقـلـبه مـن حـالة يسـر إلى حالة عـسـر، ومـن حالة إقـبـال إلى حالة إدبـار 0
ويقـول الله تعالى هـنا : { يا أيها الـذين آمنـوا لا تخـونـوا الله والـرسـول تخـونـوا أماناتـكـم وأنتم تعـلمـون }، سـورة الأنـفـال 27، وكـثير مـن التصرفات السلـوكـية للإنسان لا تكـون مسـتـتـرة عـن الخـلـق، لأن أعـين الخـلـق حـين تـرى جـريـمة مـا ، فـهي تسـتـدعي رجـال القانـون ليأخـذوا حـق المجـتـمـع مـن المجـرم ، لكـن ماذا عـن الجـرائـم المسـتـتـرة ؟ 0
ونحـن نعـلم أن كل جـريمة تطـفـو أو تظهـر واضحـة إنما تـوجـد تحـتها جـرائم مخـتـفـية لأن الـذي يـقـتـل إنما يخـفي جـرائم أخـرى ، مـثـل شــرائه السلاح بـدون تـرخـيـص , وإن كان لا يملـك نقـودا فـقـد يسـرق ليـشـتري السلاح ، ثـم يـقـوم بتجـنـيـد غــيره لـمـساعـدته في القــتـل وكل تـك الجـرائـم مسـتـرة ، وبالتأكـيـد هـناك سـلـوكـيات باطـنة يأتي بعــدها السلـوك المقـلـق للمـجـتـمـع وهـو الجـريمة الظاهـرة ، وقـصارى قـانـون البشـر أن يحـرس المجـتـمـع مـن الجـرائم الظاهـرة فـقـط ، لـكـن عـين الـقـانـون لا تـرى الجـرائـم الباطـنة والخـفـية 0
أما عـين الـدين ومـراقـبة الضـمير ، فـتخـتـلـف لأنها تـرشــد الأعـماق لا الصـور، لأن الـدين أمانة وضـعـها الله في ضـمير الإنـسان، الـذي جـعــل خـلـق المـراقـبة في ضـمـير الإنسان حـارسـا ، فإيـاك أن تخـون الأمانة في الأمـور السـرية، مـعـتقـدا أنـك بـعـيـد عـن أعـين الناس ، فالله هـو الـرقـيب الـذي لا تخـفى عـليه خـافـية في الأرض ولا في السـماء ، لأن الأمـور التي يعـرفها الناس يمكـن أن تـدافــع عـنها أمام الناس ، بخـلاف الأمـور الباطـنة وهي المهـمة لأنها هي التي تسـيـطـر عـلى إيجـاد السـلـوك العـمـلي 0
فإياك أن تخـون الله والـرسـول ، وتخـون الأمانة التي وضـعـت لك حجـة لك في ذلك إلا اخـتيارك إن شـئت فـعـلت وإن شـئت تـركـت ، وعـلى الإنسان ألا يخـون الأمانة التي بـينه بين ربـه ، وإذا لـم تـتـوافـر الحـراسـة الإيمانية مـن ضـمـيره عـلى الأعـمال الباطـنة فـقــد ينحـرف ، لأن كل جـريمة ظاهـرة إنما تـتـم بتـبيـيـت أمـر باطـن مسـبـق 0
وما دمـت قــد آمـنـت بالله تعـالى ربا بمحـض اخـتـيـارك ، فالـتـزم بالأشـياء التي جـاء لك بها مـن آمـنت به وأنت تعـلـم : أن الإيمان هـو عـلة كل تكـليـف ، وعـلى سـبيـل المثـال أنـت تصلي خمسة فـروض كل يـوم ولـيلـة ، لأن المشـرع أمـرك بـذلك تصلي في وقـت الصبح ركعــتـين ، وفي وقـت الظهـر أربـع ركـعـات ، وفي وقـت العـصر أربـع ركعـات وفي وقـت المغــرب ثـلاث ركـعـات ، وأربـع ركـعـات وقـت العـــشاء ، لأن الـمشـرع وهــو الـمـولى عـز وجـل أمـرك بـذلك ، وأنت تصـوم لأن الله أمـرك أن تصـوم، فإن أدركـت مـن الصـيام أن فـيه مـنافــع لك ، فـهـذا مـوضـوع آخـر، ومـع ذلك تظـل عـلـة الصـيام أن الله أمـرك به ، وهـكـذا تكـون عـلة كل حـكـم هي الإيمان بمـن حـكـم بهـذا الحـكـم 0
قال الله تعالى : { أيها الـذين آمنـوا لا تخـون الله والـرسـول } ، وما هـي الخـيانة؟ ، إن مادة الخـيانة كلها الانتقـاص ، وضـده التـمـام والكـمال والـوفاء ، ويـقابـل كل ذلك الاخـتيار والغــدر ، فإذا كان الله يـقـول لـنـا : لا تخـونـوا الله والـرسـول فــعـلينا أن نلـتزم، لأن التـشـريـع وصلنا مـن الله بـواسـطة الـرسـول ، ومـن يطـع الـرسـول فـقـد أطـاع الله ، لأن الله لم يخـاطـبنا مباشـرة ، وإنـما خـاطـب رسـولا اصطـفـاه مـن خـلقه مـن الناس، وأيـده بـبـرهـان ومعجـزة ، وكل مـا وصـلنا مـن تشـريـع إنما كان بـواسـطة الـرسـول 0
فـلا تخـن الله فـيما جـاء في القـرآن الكـريـم ، وجـاء مـن الرسـول المفـوض مـن الله بان يشـرع ، وتشـريع الرسـول هـو تشـريع الله واتباعـه هـو اتبـاع لله ، جـاء في القـرآن الكـريـم قال الله تعالى : { وما آتاكـم الـرسـول فـخـذوه وما نهـاكـم عـنه فانتهـوا }سـورة 7 0
فـلله أمانة فـيما نص عـليها قـرآنا ، ولـلـرسـول أمانة فـيما لـم ينص عـليه القـرآن الكـريـم ومـا هـو إلا بتـفـويض مـن الله مـنـزل القـرآن الكـريـم للرسـول بأن يشـرع ، فإن اطـعـت هـذا الـرسـول فـقـد أطـعـت الله وإن عـصـت هـذا الـرسـول فـقـد عـصـيت الله 0
وعـرفـنا أن الاخـتيان هـو الانتقاص ، ومعـنى الانتقاص هـو الـوقـوف بعـيـدا عـن الكمال والاتمام المطـلـوب، والإنسان حـين آمـن يصبح للإيمان في النفـس أمانة، فانت قـد آمنت أنه لا إلـه إلا الله ، وأمانة هـذا الإيمان تقـتضـيـك ألا تجـعــل لمخـلـوق ولاية عـليـك، ولا ولاء له إلا أن يـكـون هـذا الـولاء نابعـا مـن اتـباع منهـج الله تعالى ، وهـذه هي أمانة الشهـادة ، أما أمانة الـرسـالة فـهي الحـرص عـلى تطـبيـق كل ما بـلـغـه الـرسـول صلى الله عـليه وسـلم عـن الله عـز وجـل قــدر الاسـتـطـاعـة 0
إذن : فالأمانة مـع الله تعالى أن تـلــتزم بكلمة الإيمان في أنه لا إله إلا الله ، وإياك أن تعـتـقــد في أن أحـدا يمكـنه أن يتـصـرف فـيـك ، أو يمـلك لك ضـرا أو نفـعـا أو أن مـصالحـك ممكـن أن تقـضى بعـيـدا عـن الله ، فـكل شـيء بيـد الله سـبحانه وتعالى ، هـو صاحـب الحـول والطـول لا إله إلا الله ، وإياك أن تفـهـم أن حـكـما يجيء لـك عـن غــير طـريـق رسـول الله صلى الله عـليه وسـلم ، لأنـك إن خـرجـت عـن هـذا الإطـار تكـون إنسانا لم يـؤد أمانـة الله ولا أمانة الـرسـول 0
وللحـديث بقـية إنشـاء الله نـوا صله في حـلقة قـادمة ، وإلى أن نلتقي اسـتـودعـكم الله والسـلام عـليكم ورحمة الله وبركاته0