د/جمال عبد العزيز أحمد*
ونتأمل: كيف فَهِم السمك رسالته في الابتلاء والاختبار وتقوية عزيمتهم ؟، الله تعالى علَّمه وفهَّمه أن يجئ السبت فقط ، أما بقية الأيام فيصوم عن المجيء حتى قرَّر هؤلاء نصب الشباك له يوم السبت ليقع فيها ، ويظل حتى يأتي يوم الأحد فيأخذوه من تلك الشباك:"إذ تأتيهم حيتانهم يوم سبتهم شرعا" كناية عن إلمامها بوظيفتها، وإدراكها لطبيعة مهمتها ، والفعل المضارع يفيد الاستمرار والدوام ، والفاعل (حيتانُهم) ، فهي التي تأتي إليهم وقوله: (شرعا) فيه إيحاء بقوة الأسماك ، وقدرتها على الضرب في الهواء ، فهي كشراع السفينة ، واضح ، ضارب في البحر ، والكلمة بأصواتها وبِنْيَتِها الصرفية توحي بكبر السمك ، وعظمة لحمه ، وأنه من شدته يحدث حركة تُسْمِع صوتا ، وإذا تخيلنا صورة الحوت ، وهو يلتوي ضاربا في الجو بجسده ، فيرتفع الماء عاليا لعلمنا شدة الابتلاء ، وخطورة الدرس وامتحان العزيمة، وقوله :"ويوم لا يسبتون لا تأتيهم" كناية عن وضوح المهمة ، وإدراك الرسالة ، ومعرفة الدور المنوط بهم، من غير كسل، ولا تأخير،ثم جاءت الآيات بالسبب الأصيل من كل ذلك : "كذلك نبلوهم بما كانوا يفسقون"، وهو كناية عن عدل الله في أنه لا يظلم الناس شيئا ، وأن الابتلاء بسبب فسقهم ، وخروجهم عن جادة الطريق ، وسلامة السبيل ، والباء تفيد السببية والأجلية ، وهنا انقسم المجتمع شرائحَ ثلاثًا : قسم يدعو ويعرف وظيفته المجتمعية، وهي حراسة الفضيلة ، ومجابهة الرذيلة ، وشريحة أفسدت واحتالت على المعصية وأغضبت الله ، واصطادت السمك في وقت تحريم الصيد له ، وشريحة ثالثة توهن من قوة العاملين ، وتدفع بهم إلى جانب الصمت ، وترك أهل الفساد في فسادهم يمضون ، وتقول :"وإذ قالت أمة منهم لم تعظون قوما الله مهلكهم أو معذبهم عذابا شديدا" ؟! ، يستنكرون على الدعاة القيام بدورهم ، ويثنونهم عن فعل الخيرات وصد الباطل ، فهي كناية عن الميوعة ، والتثبيط وإضعاف القوة ، والتوهين من نتائج العمل ، فلا هم كانوا معهم ، ولاهم سكتوا ، وإنما أوهنوا جهدهم ، وسفهوا من عملهم ، وقالوا لهم : الله قدَّر هلاك هؤلاء ، لا عليكم ، دعوهم وما يفسقون ، ولكن الدعاة الفاهمين لوجودهم ردُّوا ردًّا عقليا علميا دعويا يدل على مدى فهمهم ، وسامي علاقتهم بالله ، وإدراكهم لدورهم: " قالوا معذرة إلى ربكم ولعلهم يتقون"، فنحن نعذر أنفسنا بين يدي الله ، ولعل نصحنا ووعظنا وتبصيرنا إياهم يأتي بنتيجة ، وينتهون ويخافون الله، ويتقون ربهم ، ففيه كناية عن وعيهم ورحمتهم بمجتمعهم ، وقيامهم بدورهم الاجتماعي الصحيح ، وحراستهم للخلق والفضيلة، فما عاقبة ذلك؟ قال الله تعالى:"فلما نسوا ما ذُكِّروا به أنجينا الذين ينهون عن السوء وأخذنا الذين ظلموا بعذاب بئيس بما كانوا يفسقون"، كناية عن صلفهم ، وكثرة ارتكابهم لتلك المعاصي ونسيانها لكثرة ارتكابهم إياها، ومعنى ما ذكِّروا به كثرة مَنْ ذَكَّرَ ومعرفة مَنْ ذَكَّر؛ ولذلك بني الفعل للمجهول ، وفي قوله : ( أنجينا الذين ينهون عن السوء) كناية عن الدعاة الصالحين ، وأهل الخُلُق النبيل في المجتمع ، وأن ذلك دأبهم ، وأنهم (ينهون عن السوء) بكل ألوانه و(أل) جنسية أي عن جنس السوء أيًّا كان ، ثم يأتي القول الفصل في الطائفتين الأخريين (وأخذنا الذين ظلموا بعذاب أليم)، وهو كناية عن قدرة الله وهيمنته على كونه ، فقد أخذهم وحصدهم حصدا، وسماه الذين ظلموا فقد أدخل هؤلاء في هؤلاء، وجعلهم صنفا واحدا، وكلمة (عذاب) نكرة تفيد العموم والشمول ، و(بئيس) صفة مشبهة تفيد الاستمرار والثبات ، وفيه معنى البأس والشدة والقوة ، فهم رهن ذلك العذاب الضخم المستمر الذي لا طاقة لهم به، ولا قِبَل لهم بشدته ، فهو كناية عن خطورته وعدم إطاقته واحتماله، (بما كانوا يفسقون) فهو من عدالة الله ، لا ظلم لهم ، بل هم يظلمون، ويفسقون، فهم يستحقون ذلك، وهو العاقبة المناسبة لهم، والنتيجة الحتمية لأمثالهم ، اللهم اكتبنا في الدعاة المخلصين، واجعلنا من الواعين المحبين لدينهم ، وأوطانهم ، وشعوبهم ، ويتمنون الصلاح والخير لهم ، واجعل مجتمعاتنا مجتمعات خير ونور ، وتطور وسرور ، ومتماسكة متينة يا عزيز يا غفور ، والحمد لله رب العالمين ، وصلى الله ، وسلم ، وبارك على سيدنا محمد ، وعلى آله وصحبه أجمعين.
* كلية دار العلوم بجامعة القاهرة
[email protected]