[author image="https://alwatan.com/v2/v2/wp-content/themes/watan/images/opinion/alibadwan.jpg" alt="" class="avatar photo" height="60" width="60"]علي بدوان[/author]
”إن النجاح الذي ينعم به الاقتصاد الصيني الآن، مصدره في جانب كبير منه، انخفاض الأجور، وبنية تحتية جيدة، والقوانين الاقتصادية العصرية، وإحلال وتشجيع روح الابتكار والمبادرة، ومراعاة قواعد الحفاظ على التوازن المطلوب، وانسجاما مع ذلك، تستكمل بكين كل يوم صياغة القوانين واللوائح ليتوسع مدى انفتاح السوق الصينية على الخارج وتتحسن البيئة الاستثمارية باستمرار.”

تَجَلّت مسيرة الصين الجديدة، بعد إقرار سياسة الانفتاح أواخر سبعينيات القرن الماضي، في انطلاقة جبارة لاقتصاد بات هو الثاني في اقتصاديات العالم بعد الولايات المتحدة، اقتصاد يتربع ضمن المجموعة الخامسة من اقتصادات العالم: الولايات المتحدة والصين وألمانيا وفرنسا واليابان، حيث تُشير تقديرات فلاسفة الاقتصاد في العالم بأن الاقتصاد الصيني سيُصبح أكبر اقتصاد في العالم قبل منتصف هذا القرن، بل إنَّ البعض توقع حدوث ذلك عند نحو 2035 حال استمرت مُعدلات النمو الحالية للاقتصاد الصيني على حالها، متبوعة بسياسات رشيدة على المستوى الاقتصادي المُتبع في إطار العلاقات المُتبادلة مع دول العالم، ومترافقة مع تنمية عوامل الاستثمار الصيني في الخارج، والاستثمار الخارجي في الصين، بعد أن كان محظورا لعقود خلت، وبالتوافق مع سياسة خارجية صينية تقوم على الاعتدال بحدود جيدة، وتجنب الصدام "المباشر" مع القوى المُقررة في الشأن الدولي.
العملاق الصيني يَسيرُ بجموح وطموح عال كعملاق قادم بصمت وعزيمة، عبر اقتصاد هائل، وأحلام واسعة، واستراتيجية ترمي لربط دول عديدة به خصوصا في منطقة الإقليم الآسيوي، وفي تحدٍّ واضح للهيمنة الاقتصادية للولايات المتحدة. فقد حققت جمهورية الصين قفزات اقتصادية خلال العقود الأخيرة، إذ إنها ومنذ عام 1978، بدأ إنتاجها الاقتصادي بالنمو بمعدل (9,4) ليتضاعف الناتج الكلي للفرد فيها بنسبة خمسة أضعاف، ولتصبح ثالث أكبر دولة في العالم من ناحية التجارة الخارجية.
إن الفورة الاقتصادية الصينية، لم تَكُن لتأتي بيسر وسهولة، بل جاءت بعد مخاض ولادة عسيرة، لم يَكُن مُمكنا لها أن ترى النور بسهولة بعد عقود من الانغلاق الذي عاشته الصين الشعبية في ظل أزماتها السابقة والمتعلقة بالصين الوطنية (تايوان) والحرب الكورية عام 1954، وأزمات الهند الصينية مع وجود الاحتلالين الفرنسي والأميركي لبلدان تلك المنطقة، وبعد حصار دولي هائل مورس بحقها إبان اشتداد صراع الأقطاب والحرب الباردة، والتي ترافقت مع صراع (صيني ـ روسي) بين رفاق الأيديولوجيا اتخذ عناوين الخلاف في الاشتقاق الأيديولوجي لأبناء المدرسة الفكرية الواحدة.
إن النجاح الذي ينعم به الاقتصاد الصيني الآن، مصدره في جانب كبير منه، انخفاض الأجور، وبنية تحتية جيدة، والقوانين الاقتصادية العصرية، وإحلال وتشجيع روح الابتكار والمبادرة، ومراعاة قواعد الحفاظ على التوازن المطلوب، وانسجاما مع ذلك، تستكمل بكين كل يوم صياغة القوانين واللوائح ليتوسع مدى انفتاح السوق الصينية على الخارج وتتحسن البيئة الاستثمارية باستمرار، وزد على ذلك، تواصل عملية إصلاح النظام النقدي بخطوات ثابتة.
إن الصين الشعبية تمتلك الآن أسرع اقتصادات العالم نموا، وتحتل المرتبة الأولى في ادِّخار الاحتياطات النقدية بالعملات الصعبة. وتمتلك أكبر جيش في العالم من حيث العدد، ورابع أكبر ميزانية دفاع في العالم والتي تتزايد بنسبة (10%) سنويا، لكنها ما زالت بحاجة لخطوات وخطوات أكبر حتى تأخذ مكانا حقيقيا في الاقتصاد العالمي، لتظهر كلاعب مُستقل في المجتمع الدولي، يستطيع فرض شروطه التي يُفضّلها، ولا يقبل أو يستجيب لشروط الآخرين ورغباتهم السياسية تجاه العديد من القضايا الدولية المطروحة على جدولِ أعمال المجتمع الدولي.
ومهما يكن من أمر، إن التوجه الاقتصادي الصيني يُفترض به أن يتكامل مع إعادة تنشيط الدور السياسي للصين، فإهمال الجانب السياسي المُتعلق بالحراكات الدولية الكبرى يُضعف الموقف الصيني عند الكثيرين الذين يرون بأن لبكين دورا مهما في سياق إدارة السياسات الدولية. وهنا علينا أن نلحظ أن الحضور الصيني السياسي في الساحة الدولية بدأ يتطور خلال العامين الأخيرين، ويتوقع له أن يتزايد وأن يصبح أكثر فعالية وحضور.
أما من جهة المُنافس المُباشر للصين على صعيد الاستراتيجية العالمية (أي الولايات المتحدة) فقد تراجعت إدارة الرئيس السابق باراك أوباما عن الكثير من توجهاتها التي سبق وأن وضعتها بالنسبة للعلاقات مع الصين، بما في ذلك التضييق على بكين بالنسبة لأكثر من موضوعٍ يتعلق بمنطقة بحر الصين والعلاقة مع دول الجوار مع الصين وتخفيف درجة التسخين في تلك المنطقة، وقد بدا أنَّ إدارة الرئيس دونالد ترامب تسير الآن على الخط ذاته، حيث إدراك واشنطن أنَّ جميع دول جنوب شرق آسيا تعتمد على التجارة البينية مع الصين الشعبية ولا تستطيع الانفكاك عن هذه العلاقة أيا كانت الأسباب والظروف.
ومع أنَّ تلك الدول جميعها تجد صعوبة في التخلي عن علاقتها بواشنطن، هذه العلاقة المُشيّدة بتعاون عسكري واستخباراتي وثيق مع الولايات المتحدة وقواعد عسكرية أميركية وبرامج تسلح وتدريب. لكن هذه الدول صارت تميل إلى القبول بالأمر الواقع الجديد، وهو تحوّل النظام الإقليمي الذي اعتمد في هياكله على وجود قطب دولي كبير، هو الولايات المتحدة، إلى نظام إقليمي بمواصفات جديدة تقوده الصين الشعبية ومستقل بعض الشيء عن النظام الدولي الراهن، ولاتبتعد استراليا كثيرا عن تلك المعادلة، خصوصا وأنها تعتمد اقتصاديا على تجارتها مع الصين الشعبية، ولم تشترك فعليا في أي حلف مناهض لها.
لكن، وبمطلق الأحوال، إنَّ الدعم والتفويض الذي حصل عليه الرئيس الصيني (شي بينج) من أعضاء المؤتمر التاسع عشر للحزب الشيوعي الصيني في تشرين الأول/أكتوبر 2017 الماضي، سيدفع به نحو إحداث خطوات هامة على صعيد الوضع الداخلي في الصين وعلى صعيد دور الصين الشعبية في الحلبة الدولية. فقد حصل الرئيس (شي بينج) على دعم وتفويض في مسألتين، الأولى تتعلق بالشأن الداخلي إذ أصبح بفضل هذا الدعم رئيسا مقررا على درجة عالية، كسلفه الرئيس الأسبق ومفجّر ثورة الإصلاح في الصين الشعبية (دينج سياو بينج) فبات يحوز على صلاحيات وسلطات لم يحظ بها رئيس آخر منذ عهد الرئيس المؤسس للصين الشعبية (ماو تسي تونج) سوى الإصلاحي الكبير (دنج سياو بينج). والمسألة الثانية حصوله على دعم وتفويض من المؤتمر بشأن إدارة وصناعة السياسات الصينية على مستوى العالم، إذ بات بيده أن يصدر التوجيهات ويطلق عقال كافة مصادر القوة الصينية لتحقيق حلم الحزام والطريق والتربع على عرش قيادة العالم في موعد لا يتجاوز منتصف القرن، أي خلال الثلاثين عاما القادمة.