لقد كشف قرار الولايات المتحدة بالاعتراف بالقدس المحتلة عاصمة لكيان الاحتلال الإسرائيلي، ونقل سفارتها إلى المدينة المحتلة الذي جاء هذه المرة في عهد الرئيس الجمهوري دونالد ترامب، عن أن القرار هو قرار مؤسسي وليس فقط قرار الرئيس ذاته.. صحيح أن الرئيس ترامب لم يخفِ موالاته وانحيازه الكامل لكيان الاحتلال الإسرائيلي منذ إعلان ترشحه للانتخابات الرئاسية، إلا أن الولايات المتحدة ـ وكما هو معروف ـ هي دولة مؤسسات، ولا يصدر عنها قرار دون أن يمر على المؤسسات التشريعية وفي مقدمتها الكونجرس، ويدرس من قبلها جميعًا، ومعرفة مدى تأثيره على المصالح العليا للولايات المتحدة، مع الأخذ في الاعتبار حقيقة الواقع ودراسته دراسة معمقة، ومدى إمكان مرور قرار خطير من هذا النوع يمس هوية مدينة لها مكانتها لدى أكثر من مليار مسلم.
لذلك لا يمكن للولايات المتحدة أن تخطو هذه الخطوة خبط عشواء، وتغامر بمصالحها، وتقامر بأمن كيان الاحتلال الإسرائيلي حليفها الاستراتيجي ورأس رمحها في المنطقة دون أن تكون هناك دراسة عميقة وواقعية وترتيبات داخل المنطقة تسمح لها بتمرير هذا القرار.
على أن الأهم في ذلك، هو أن القرار الأميركي ذاته لا يمكن عزله حقيقة عن الأهداف المرسومة من وراء تفجير "الحريق العربي" والتي ظهرت بصورة جلية، وهي إعادة رسم خريطة المنطقة، وصياغة نظام جديد فيها لا يقوم على قبول كيان الاحتلال الإسرائيلي فحسب، وإنما يكون هذا الكيان الغاصب الشرطي على المنطقة كشرط لا بد منه لضمان بقائه، يتحقق من خلال كل ذلك تصفية القضية الفلسطينية، وإيجاد وطن بديل للشعب الفلسطيني، وبالتالي مخطط استهداف سوريا وليبيا والعراق، وكذلك مصر وغيرها، كان شرطًا لازمًا وضروريًّا لتحقيق المرسوم من الأهداف؛ لأن هذه الدول هي العقبة، بل القادرة على التأثير في مجريات الأحداث في حال كانت الولايات المتحدة أقدمت على الاعتراف بالقدس المحتلة عاصمة لكيان الاحتلال الإسرائيلي ونقل سفارتها إليها، وواقع حال هذه الدول هو أبلغ مُعبِّر عن هذه الحقيقة التي لا تحتاج إلى عناء جهد لكشفها أو إقامة الأدلة والبراهين عليها.
لذلك، ما يثير السخرية والأسى والحسرة والألم في الوقت ذاته، هو التنادي العربي الممثل بجامعة الدول العربية التي لا يعرف حقيقة تحركها إزاء القرار الأميركي حول القدس المحتلة، هل دافعه الضغط الجماهيري الشعبي، والمظاهرات التي تخرج في أكثر من بلد؟ أم دافعه الشعور بالحرج وبالتالي محاولة رفع هذا الحرج والعتب؟
وحين أقول إنه تحرك مثير للسخرية والأسى والحسرة والألم، إنما أعني ذلك وبشدة؛ فالذي سمح بوصول الوضع العربي إلى هذا الراهن، هو جامعة الدول العربية ـ التي هنا لا أتجنى عليها ولا أتهمها بباطل، ولا أرجمها بالغيب ـ فصولات مجلس جامعة الدول العربية وبطولاته لقيادة "الحريق العربي" والعزم الأكيد على تحقيق أهدافه الاستعمارية المرسومة، ليست أنها لا تزال حاضرة في الأذهان، وإنما هي تاريخ عربي محفوظ في السجلات، ولا يمكن محوه أو تجاهله أو حتى القفز عليه، فلا يزال شريط الأحداث المؤسفة يمر أمام الأعين والذاكرة، حين شرب هذا المجلس نَخْبَ الاستعمار حتى الثمالة، وكأس الشجاعة طالبًا من مجلس الأمن الدولي ليصدر قراره الشهير بالتدخل العسكري من قبل حلف شمال الأطلسي ضد ليبيا ليخرس الصوت الليبي عن التلفظ بكلمة فلسطين ودعم شعبها، ورفض الاحتلال الإسرائيلي، كما أخرست الولايات المتحدة الصوت العراقي، فاستحال هذان البلدان العربيان إلى ما يراه الجميع الآن، ثم ليواصل هذا المجلس صولاته وبطولاته مستأسدًا على سوريا للهدف ذاته، فيجمد عضويتها ويفرض على شعبها العقوبات الاقتصادية، ويتوجه إلى مجلس الأمن الدولي أكثر من مرة لكي تلحق سوريا بالعراق وليبيا، لولا أقدار الله، والفيتو الروسي والصيني الذي كان بالمرصاد. ولمَّا أحس بالعجز عن تحقيق ذلك، قرر في اجتماعاته الشهيرة بفتح باب التسليح لتنظيمات القاعدة الإرهابية التي أطلق عليها زورًا اسم "ثوار سوريا"، مع مواصلة جلب الإرهابيين والتكفيريين والمرتزقة وقطاع الطرق وأصحاب السوابق من السجون ليكونوا بديلًا عن "الناتو" ويُجْهِزُوا على سوريا، وبالتالي القرار الأميركي بشأن القدس هو إحدى النتائج لـ"لحريق العربي" وللأدوار التي لعبها العرب "الرسميون والثورجيون، والتكفيريون والإرهابيون". ألم يَعِدُوا هؤلاء الأميركي والإسرائيلي بتغيير عقيدة الجيش العربي السوري، وإعادة تشكيله ليكون شرطيًّا فقط مهمته حماية المؤسسات السورية؟ ألم يعرض هؤلاء تمليك الجولان السوري المحتل لكيان الاحتلال الإسرائيلي مقابل قيامه بالتدخل العسكري ضد سوريا أو بتحريض الولايات المتحدة على ذلك؟ ألا يزال يعيش هؤلاء الثورجيون والإرهابيون والتكفيريون في كنف الإسرائيلي المحتل، يتلقى منه الطعام والعلاج والسلاح؟
في تقديري، السير باتجاه تحميل الولايات المتحدة المسؤولية عن قرارها بالاعتراف بالقدس عاصمة لكيان الاحتلال الإسرائيلي، هو محاولة للهروب إلى الأمام، والتلطي وراءه، وإخفاء الأدوار الحقيقية التي قادت إلى ذلك، فالولايات المتحدة هي دولة براجماتية لا تعترف إلا بلغة المصالح، ولا يهمها إلا مصالحها، كما أنها ليس لديها حليف في المنطقة سوى كيان الاحتلال الإسرائيلي الذي يعد الدفاع عنه من الثوابت الأساسية في السياسة الأميركية.
نعم، الولايات المتحدة مثلما هي استطاعت أن تخطو خطوة جديدة نحو خدمة حليفها الاستراتيجي كيان الاحتلال الإسرائيلي، قادرة أن تكون صانعة للسلام إن أرادت، لكنها لن تتجه إلى ذلك إلا حينما تتوافر لدى العرب والمسلمين العوامل التي تدفعها نحو تحقيق السلام المنشود، وهي العوامل المضادة للعوامل التي قادت ولا تزال إلى هذا الوضع المتردي.

[email protected]