[author image="https://alwatan.com/v2/v2/wp-content/uploads/2016/05/amostafa.jpg" alt="" class="avatar photo" height="60" width="60"]د.احمد مصطفى [/author]
” ..في متابعتها للانتخابات في ولاية ألاباما على مقعد مجلس الشيوخ تنقل مجلة ايكونومست البريطانية الرصينة كيف أن بعض هؤلاء الايفانجليكال يرون تبريرا لاهوتيا للاعتداء الجنسي على القصر. ولمايك بنس تأثير قوي ـ وإن كان خافتا ـ على إدارة ترامب لسياساته، وإذا لاحظت فيها مسحة توجه محافظ تأكد أن وراءه بنس. لا يعني ذلك أيضا أن الموضوع ديني، ولكن ترامب ـ مثله مثل أي سياسي ـ يريد الحفاظ على قاعدة شعبية تفيده في الانتخابات.”

على عكس الموجة "الشعبوية" الغاضبة، وما يمكن أن يتهم به المرء بأنه لا مبال ويدعي التعقل كي لا يشارك في مهرجانات الصراخ الوطني والقومي، أتصور أنه حسنا فعل العرب والمسلمون بأنهم احتجوا وعارضوا وحتى تظاهروا دون الإخلال بأمن ولا الإضرار بمصالح مدنية لأحد ـ خاصة الولايات المتحدة. فمن بين التفسيرات التي بها قدر من المنطق، أن الرئيس الأميركي دونالد ترامب أعلن قراره الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل في هذا التوقيت عمدا وليس اعتباطا أو عن سوء تقدير. فالتحقيقات التي يجريها المحقق الخاص في العلاقة بين روسيا وفريق ترامب تقترب من الرئيس، وربما تقود إلى احتمال محاكمته أمام الكونجرس بتهمة إعاقة العدالة. ومع أن اتهام الرئيس ومحاكمته لا تعني بالضرورة خلعه (وقد حدث ذلك مع الرئيس السابق بل كلينتون) إلا أن وضع ترامب ليس جيدا عموما وهناك من قيادات حزبه ونوابه من لا يريدونه في البيت الأبيض.
ما قد يعطل أو يؤجل تحقيق الكونجرس مع ترامب هو خطر تتعرض له أميركا تتطلب قيادة الرئيس لحرب أو اجراءات دفاع عن أمن الولايات المتحدة. وفيما يخص مواجهة كوريا الشمالية أو إيران مثلا، يمكن ألا ينصاع جنرالات البنتاغون (وزارة الدفاع الأميركية) لأوامر الرئيس بشن حرب على أيهما. فليس أسهل إذا من توقيع قرار الكونجرس بشأن القدس الذي يخضع لمراجعة كل ستة أشهر منذ 1995 ويضرب ترامب أكثر من عصفور بحجر. أولا يكون رئيسا يفي بعهوده الانتخابية، وثانيا يكسب ود متطرفين يهود ومتشددين انجيليين، وثالثا والأهم ينتظر إرهابا عربيا أو اسلاميا ضد بلاده ـ أو حتى عملية مثل تلك التي حدثت في نيويورك لمهاجر بنغلاديشي مسلم سارعت وسائل الإعلام الأميركية إلى القول بأنه هتف وهو يفجر عبوته الناسفة "هذا من أجل القدس". لهذا نقول حسنا إن المظاهرات والاحتجاجات لم تخرج عن طور السلمية وتعرض أي شيء لخطر يحقق لترامب غرضه الرئيسي.
لا يعني ما سبق أن ترامب لم يكن متأثرا بعوامل أخرى كثيرة، وفي مقدمتها أن مستشاريه يعملون على أن يكون الرئيس الأميركي الذي يدخل التاريخ بأنه صاحب "حل الصراع الرئيسي في الشرق الأوسط". ورغم التهويل والتضليل بدعاء أن هناك "صفقة القرن" واتهام أطراف عربية بالتواطؤ على "تصفية القضية" إلا أن هناك فريقا يعمل على خطة تسوية بين الاسرائيليين والفلسطينيين لن تنتظر حتى فترة رئاسية ثانية كما يفعل عادة كل الرؤساء الأميركيين. بالطبع لا يتوقع أحد ألا تكون الخطة لصالح اسرائيل بالأساس، وهذا موقف أميركا الثابت بغض النظر عمن يسكن البيت الأبيض. من يريدون جعل الصراع مع اسرائيل دينيا يروجون لأن ترامب أوكل لزوج ابنته (اليهودي) جارد كوشنر ملف الشرق الأوسط. وبالتالي يجب ألا نتعامل مع أي مقترح أميركي، وهذا خطأ كارثي لأن كثيرا من اليهود ـ في أميركا وخارجها ـ أقل صهيونية كثيرا عن المسيحيين الايفانجليكال الأميركيين ومنهم نائب الرئيس مايك بنس. ومن يتابع مقابلات بنس منذ حملة الانتخابات العام الماضي يلحظ من بعض اجاباته أنه لا يختلف كثيرا عن السلفيين والمتطرفين بين المسلمين.
يشكل هؤلاء الايفانجليكال ربع سكان الولايات المتحدة تقريبا، وفي استقصاء سابق منذ فترة كان أكثر من ثلاثة أرباعهم يرون حقا مقدسا للإسرائيليين في فلسطين. وللعلم هذه النسبة لا تصل إلى النصف بين اليهود الأميركيين، ما يعني أن بعض هؤلاء أكثر "صهيونية" من كثير من اليهود. وفي متابعتها للانتخابات في ولاية ألاباما على مقعد مجلس الشيوخ تنقل مجلة ايكونومست البريطانية الرصينة كيف أن بعض هؤلاء الايفانجليكال يرون تبريرا لاهوتيا للاعتداء الجنسي على القصر. ولمايك بنس تأثير قوي ـ وإن كان خافتا ـ على إدارة ترامب لسياساته، وإذا لاحظت فيها مسحة توجه محافظ تأكد أن وراءه بنس. لا يعني ذلك أيضا أن الموضوع ديني، ولكن ترامب ـ مثله مثل أي سياسي ـ يريد الحفاظ على قاعدة شعبية تفيده في الانتخابات. ومن الخطأ التعامل مع الموضوع على أنه صراع سلفيين ومتطرفين من أتباع الأديان، بل من المهم التمسك بالحق على أساس واقع التاريخ والجغرافيا وحتى القوانين والقرارات الدولية ـ رغم أنها لا تعني الكثير أمام القوة التي تفرض الأمر الواقع.
في مواجهة القرار الأميركي، ومع أهمية التعبير عن الغضب والانتقاد دون إعطاء الأميركيين والاسرائيليين فرصة وصمنا بالإرهاب، علينا أن نعيد ابراز الحقائق وتدريسها للأطفال في المدارس وتكرارها على العامة عبر كل الوسائل. فلسطين أرض عربية، سكنها الفلسطينيون تحت الاحتلال العثماني والانجليزي وبنهاية الأخير سمح لعصابات يهودية بنقل مهاجرين من أوروبا الشرقية والوسطى ووسط آسيا إلى فلسطين الخاضعة لسلطة الانتداب. لكن المحتلين الاستيطانيين هؤلاء لم يتمكنوا من القضاء على السكان الأصليين من الفلسطينيين كما فعل المهاجرون الأوروبيون مع السكان الأصليين للولايات المتحدة واستراليا وغيرها. وقضية القدس تاريخية بقدر ما هي دينية، فإذا كانت الأديان المساوية الرئيسية الثلاث تعتبرها مقدسة فإن سكانها على مر القرون هم العرب الفلسطينيون من مسلمين ومسيحيين ويهود.