جماليات بنية الخطاب البصري المختزل

يعتبر اختصاص النحت حديث العهد، وتكاد تنعدم كل تاريخيّة له كممارسة فنيّة في دول الخليج العربي نظرا لعدة عوامل، الا أن التحرّك الشبابي في السنوات الأخيرة خاصة في سلطنة عمان يلفت الانتباه، ويدفعنا كمتابعين لتطّور الممارسة الفنيّة هناك لتسليط الضوء على الحراك والاندفاع غير المسبوق من قبل فئة من الشباب المغمور نحو هذا الاختصاص صعب المراس، هذا الاندفاع لمسته شخصيّا خلال زياراتي الي السلطنة وتحكيم مسابقة الأعمال الفنية الصغيرة سنة 2013 وأيضا خلال لقائي وحديثي مع النحاتين خلال زيارتهم لصفاقس عاصمة الثقافة العربية، إضافة الى متابعتي لمشاركاتهم المتواصلة خارج وداخل السلطنة وما يبذلونه من مجهود في تنظيم الملتقيات والمعارض وترك بصمة لهم أينما حلوا، في محاولة جادة للفت انتباه الجهات المعنية ليصبح المجسّم النحتي من مكونات الفضاء العمومي للسلطنة ويعانق الحقل البصري للمواطن العماني.
ولعلّ الحديث عن التجارب الشبابيّة في هذا المضمار يجعلنا نتوقف عند الكثير من الأسماء ومنها وعلى وجه الخصوص تجربة النحات المثابر علي بن سليمان بن عبدالله الجابري، هو من مواليد 1980 بولاية صحار متحصل على البكالوريوس في التربيّة الفنيّة بجامعة السلطان قابوس والماجستير في الإدارة التربوية من معهد البحوث والدراسات العربية بمصر، اختار منهج البحث في الخامات البيئية وكيفيّة توظيفها وفق معالجات جمالية معاصرة أما في تجربته الفنيّة الخاصة أو من خلال الورش والدورات التي أشرف على تأطيرها، كما أن له العديد من البحوث المنشورة وشارك في العديد من الندوات العلميّة الدوليّة، وساهم أيضا في العديد من البحوث والمشاريع الرامية الى تطوير تدريس مادة الفنون.. له العديد من المعارض الفردية والجماعية داخل السلطنة وخارجها ونظّم العديد من المعارض والمسابقات وأسس للعديد من المشاريع التي تساهم في التعريف والتسويق للفنان التشكيلي العماني، حاصل على العديد من الجوائز ويدير العديد من الفعاليات الفنية أهمها مخيم النحاتين الدولي بصحار.
كان لقائي بالفنان في العديد من المناسبات، ولكن اللقاء الذي جمعني به في الملتقى المتوسطي للنحت في مدينة صفاقس مؤخرا كان فرصة لتبادل الحديث بصفة مطولة أكثر حول تجربته وتطلعاته نحو مستقبل النحت في سلطنة عمان، وضرورة إعطائه المكانة التي يستحقها باعتباره ممارسة قادرة اليوم على اختزال وترجمة طموحات مجموعة من الفنانين الشباب الذين يبذلون قصارى جهدهم ولا يكتفون بما تقدمه المؤسسات العامة والجهات الحكومية بل واعون بضرورة البحث والسعي لصقل مواهبهم وتطويرها عبر الاختلاط والاحتكاك وامتلاك زمام المبادرة.
علي الجابري يعتبر من أبرز هذه الوجوه الشابة في السلطنة كما سبق وذكرت بما يقدمه من بحوث فنيّة جمالية وعلميّة يحاول من خلالها المزج بين المعارف النظرية من خلفيات فكرية وفلسفية وأخرى تقنية لتقديم منجز فنّي معرفي يرتقي الى مصاف الآثار الفنيّة القادرة على مواجهة الجمهور واثارته للتواصل معه بما لم يألفه سابقا.
جادت منحوتاته المختلفة الأحجام والخامات والمواضيع بجزء كبير من هواجسه وترجمت بحثه الجمالي المتواصل لإيجاد سبل خاصة للتعاطي مع الموجودات من حوله وحسن توظيف الخامات البيئية بأسلوب مبدع وطريف، حيث استلهام مفرداته التشكيليّة أساسا من الاشكال الهندسية والغنائية كما في أسس الفنون في الحضارة الإسلاميّة من ناحية والفنون الحديثة والمعاصرة من ناحية اخرى والتي ترتكز في جانب كبير منها على مبادئ الإختزال والتجريد فأبدع من خلالها تكويناته الحداثوية لمنجزه النحتي المعاصر للتعبير عن نزعات تجريدية اعتمدت على واقع تحليلي تركيبي يضمن أفق الجدل القرائي والانفتاح الدلالي .حيث يجسّد جماليات الأشكال في منحوتاته المعاصرة وفقا لروح العصر الحديث من خلال خلق علاقات تركيبية فيما بينها، حيث إمتاز تكوين الأشكال لديه بأسس جمالية دقيقة تكرس مفهوم الاحتواء كالتوازن والحركة وهي حالة تتعادل فيها القوى المتضادة، فتترابط من خلالها أجزاء متعددة لتكون كلاّ واحدا، وعادة ما تكون هذه الاجزاء بخامات مختلفة يعمل على التوليف فيما بينها ببراعة وقدرة عالية على التحكّم في مفاصل الأثر الواحد والمتعدّد في آن، لأن العمل الفني لدى علي الجابري عادة يحتوي نظاما خاصا من العلاقات التي تترابط أجزائها لنتمكن من إدراكه من خلال وحدته رغم تعدّد مكوناته في نظام متسق متآلف يخضع معه الكل لتفاصيل المنهج الواحد.
كما يعتمد على الايقاع كآليّة بناء جمالي تتردد من خلالها الحركة بصورة دقيقة ومنتظمة تجمع بين الوحدة والتغيّر بإيقاع متكرر للأشكال المكونة لوحدات الأثر الفني، فيمتاز الأثر الفني لديه أما بإيقاع من خلال التكرار أو بالتدرّج او بالتنّوع او بالاستمرار. ليخلق حركيّة تستصيغها العين وتستدعيها لمتابعة التكوين واللّف والدوران حول المنحوتة والنظر اليها من كل الجهات كما الأعلى والأسفل.
فاللغة البصريّة التي يؤلفها النحات علي الجابري هي لغة بالغة التركيب والتنوّع من حيث الخامات والأساليب والأليات والمواضيع المعالجة، وتستند من أجل بناء عناصرها إلى مكونيّن أولهما ما يعود إلى الهوية المرجعيّة للمفردات الشكليّة وهي إنتاج بصري متناص ومستعار من موروثات وثقافة بصرية معيّنة مخزّنة في ذهن الفنان ومستوحاة من مكونات بيئته واختصاصه، وثانيهما ما يعود إلى الإظهار التشكيلي المؤسس من أشكال وخطوط وألوان تكون له رؤية أسلوبية خاصة به ومن ثمّ فالمضمون الدلالي للتكوين النحتي لن يكون بدوره إلا تركيباً خضعا لإعادة الصياغة لكل هذا بعد التحليل والاختزال.
ولأن النحت الحديث والمعاصر من الفنون التي خرجت عن النمطيّة الشكليّة إلى التركيب عبر مكونات البيئة المحيطة بالإنسان، كان لابد من إيجاد سبل فنيّة وتقنية تساهم في إعطاء بحوث الفنان وتطلّعاته وجودا، فاستخدم تكرار الوحدات ذات العناصر الهندسية كالمربع، والدائرة والمكعب والاشكال المحورة المشّتقة منها ... في تركيبات إيقاعية، تعتمد على مفهوم الاحتواء كأساس للبناء وبحسب طبيعة الموضوع الذي يشتق في الأغلب من قوى الطبيعة كالحجر والشجر والماء ...فيستدعي الخشب والرخام والحديد، ليزاوج ويألف فيما بينها ويسترشد بإيحاءاتها الجمالية من حيث ملامسها وألونها عبر تشكيلها واختزالها الى أشكال هندسية وغنائية، عن طريق الطرق والنحت والحفر في أعماق الخامة ليستنطقها، حيث شكّلت الأضلاع والأقطار والأقواس والخطوط المستقيمة والمنكسرة والمنحنيّة...وحدات لمسارات جماليّة تربط عناصر التكوين الفنّي وتدفع تعاشق هذه الوحدات فيما بينها، ضمن حدود التقسيمات التي يفرضها نمط العمل النحتي، وفي هذا جانب تلتقي قوّة الخامات مع التجريدات الهندسية والخطيّة للمواضيع المعالجة من جهة البناء والتأليف. بمعنى آخر أن هذه الخاصيّة الموحدة لأنماط مختلفة من الخامات والاشكال الهندسية، أظهرت الهوية الشخصية للفنان علي الجابري .
حيث تلعب عناصر التكوين الفنّي دوراً مؤثراً في بنية الصورة النهائية للمنحوتة، وفق بنى حركية متنوّعة، كأن تكون بنية متراتبة تتألف المنحوتة فيها من عناصر متغيرة الخواص لون، ملمس، حجم، شكل، فراغ... لتصبح هذه المتغيرات العنصر الأساس فيها وما يجعلها قوى جماليّة مستقلة ومتكاملة في ان في كليّة العمل وبنيته ذات التكافؤ الجمالي ذي الأنماط الجمالية المتنوعة، ولأن علاقة هذه العناصر ببعض وما تشتمل عليه من أسس شكلية اتجهت نحو التجريد والتحوير والتبسيط، فالصّورة المادية تم إعلائها والاتجاه بها نحو اللامحدود المتّصف بجمالية متسامية روحانية، فالفنان نظر الى الاشياء بغمرة احساس بوجود الباطن وعدم الاكتفاء بظواهر الاشياء حيث اعتمد على الوحدات الهندسية والغنائية والتي اريد بها الوصول الى حقيقة لا تتعلق بمكان ولا بزمان معينين، فحقيقة المكعب او المربع او الدائرة او المثلث...تظلّ حقيقة عقلية لتصديقها للمعاني العقلية، أما في تجردها وانطلاقها بعد تحويرها هي تعطي مساحات حرّة خاضعة للتأويل وتعدد المعاني والقراءات والحقائق من خلال الحركة الداخلية للأثر التي يجمع الفنان من خلال علاقاتها بين الحركة والسكون، وبحركة ايقاعية متواترة منتظمة تعكس النظام الكوّني الرائع ليغدوا فنّا ذهنيّا يحكمه المنطق الجمالي الباحث والحر واللانهائية.
فالفنان يحاول بناء شخصيّته المميزة وابتكار تكوينات متجدّدة والتي استلهمها اما من الذاكرة او البيئة او قد تكون مبدعة برؤيته الخاصة بعيداً عن المؤثرات، فهو يحاول بأعماله الباحثة ايصال رسالته الى المتلقي عبر رموزه المجسدة لمضامين ودلالات ومعان مختلفة. فأعماله المنجزة فيها وعي وإدراك في استخدام الرموز والعناصر للتعبير عما في ذهّنه ولكن بمعالجة حداثوية تجعل من التكوين ذي بنيّة بصرية قرائية معاصرة، بصياغة جديدة وبشكل مرمز يتفق والرؤيا الجمالية المعاصرة ويمنح التكوين النحتي التجريدي امتدادا ذهنياً، ويعكس التآلف الشكلي للتكوين الفني المعاصر وفق عمليات الاختزال والتبسيط لتصبح علامات عبر علاقات جدلية بين دلالات الرمز والأشكال المجردة للبيئة كهوية مرجعية ثقافية برؤية معاصرة. فأظهر الفنان جمالية فعل المزاوجة والتراكب بين الخامات والأشكال الهندسية والغنائية من خلال تكوين عناصر البناء النحتي، حيث شكلت العلاقة الترابطية بين الاستعارة المرجعية للأشكال وصياغتها الحداثوية نصا جماليا وتواصليا بالإضافة الى ما يؤديه من وظيفة جمالية بصريا بالنسبة للمتلقي.
كلّ هذا يدلّ على أنّ الخطاب الجمالي لدى علي الجابري يؤشّر إلى انبناء المنحوتة على تقاطبات تتنوّع إذ تتعدّد هي: البسيط/ المركب، الغنائي/الهندسي، الذاتي/الجماعي، الأملس/الأحرش، والمضيء/المعتم، الملء/الفراغ. وهي تقاطبات تستّمد نظامها من فوضاها، ووحدتها من تشظّيها بفعل استثمار النحات لتقنيات التبسيط والاختزال إلى جانب التراكب والاحتواء الذي يشكل مدار خطاب المنحوتة مع إيقاع التعاقب أو التداخل الذي يؤسس لبنية الخطاب الجمالي لديه. والتي تتميّز بطابعها الحداثي الذي تجلّى في تعدّد التقنيات والخامات المستخدمة وتداخل أنساقها، ممّا كشف عن تزاوجها وتفاعلها وكرّس تعدّد صيغ الخطاب الجمالي وتنوّعها، حيث أنتج تنوّع الصيغ خطابات متعدّدة يتقاطع فيها الذاتي والموضوعي، المتخيّل والمرجعي، البسيط والمركب، وهي خطابات أغنت بنية خطاب منحوتاته جماليا ودلاليا وشكّلت تنويعات له.
كلّ هذا يكشف أن جمالية بنية الخطاب الجمالي لمنحوتات علي الجابري، لا تتأسّس على منطق اعتباطي وإنما على منطق يستمدّ نظامه من الرغبة في البحث والتجديد والاستناد الى مرجعيات تمجد الاختزال والتجريد المطلق وتستثمر القوى الجمالية والروحية للشكل الهندسي ورمزياته لبلوغ الجوهر، وهذا ما لاحظناه من خلال تجربته التي تأخذ في كل مرحلة شكلا معينا يقع الاشتغال عليه لفترة زمنية يحاول الفنان خلالها استثماره جماليا وتوظيف الخامات البيئية من خلاله لمعانقة الفكرة واعطائها حيزا وجوديا، يستغله الفنان ليجعل من الصلب لينا وبهذا يخترق الظاهر ليتوغل عميقا في جوف المعنى عبر الاختزال والتبسيط.

دلال صماري
باحثة وتشكيلية تونسية