ككلب متشرد ساقوه وهم يقذفونه بأبشع الشتائم نحو مخفر الشرطة، لم يعِ ما التهمة التي سيق من أجلها بهذه الطريقة المهينة، كل ما علق في ذاكرته لحظات تنعم فيها بالملمس الوثير للنسيج الأحمر الناعم الذي يغطيها، عيناه المغمضتان عن آخر الأحلام الباذخة التي لم يدرك حتى بدايتها كما ينبغي عندما وجد نفسه محاطاً بدورية كاملة من رجال الشرطة.
بعدها فُتح باب ما، وألقى به الشرطيان إلى داخل غرفة، يتصدرها مكتب فخم، يجلس وراءه ضابط على كتفه رموز تعاني من ضيق المكان في ازدحام توضعها مشيرة إلى رتبة ما، ليست من الرتب الدُنيا على أي حال، هذا ما أدركه رغم أنه لا يميز كثيراً بين رائد وعقيد، أو بين مساعد ولواء، كلهم بالنسبة له أصحاب بزات ذات لون ترابي، ووجوه متجهمة، وملامح يعتليها التصحر أكثر مما يعتلي جم حياته القاحلة.
صرخ به الضابط ليقترب، فاقترب متوجساً، أراد أن يسأل عن سبب اصطحابه إلى هذا المكان الموحش، هو رجل مستقيم، لم يخرج عن القانون مرة واحدة، ليس قانون القضاة والمحامين فحسب، حتى تلك القوانين المتعارف عليها دون أن تدرّس في الجامعات، تلك التي تقول أن على الفقراء والمساكين أن يفسحوا الطريق دوماً لأصحاب الفخامة، وأن يتركوا لهم أدوارهم في حال وقفوا في صف ما، أن يتركوا لهم قوتهم، خبزهم، شمسهم، فيئهم، وحتى هوائهم.
لم يعترض مرة واحدة، كان يفسح لأصحاب البدلات الأنيقة وأربطة العنق دون أي اعتراض، فهو يعرف القوانين جيداً، تلك التي تنتقل جيلاً وراء جيل، دون أن يسأل أحدهم من وضع تلك القوانين، وأي حق يمتلكه مواطن ما ليتسلق ظهر مواطن آخر في مكان جغرافي اتفق على تسميته وطناً؟
نظر إليه الضابط باحتقار واضح سائلاً إياه: كيف تجاسرت على لمسها أيها القذر؟
كيف سيشرح للضابط أنها لم تأبه لقذارة ثيابه الرثة، لكنها نظرت إلى عمقه فرأت إنساناً متعباً متهالكاً، ولسبب ما رغم جمالها، وكونها تنتمي إلى تلك الطبقة المخملية، إلا أنها دعته إليها، من يصدق كلاماً كهذا؟ هذا ما حدث فعلاً، بوسعه أن يقسم بكل مقدسات الأرض والسماء أن هذا ما حصل فعلاً، لكنهم لن يصدقوه.
وقف الضابط واتجه إلى الرجل صاحب المظهر الرث، ورفع يده عاليا، وهوى بكفه الثقيلة على وجه الرجل، الذي فقد توازنه وكاد يسقط، لولا أن استند إلى حافة المكتب متقياً السقوط، وعاد وصرخ به:
ألا تسمعني؟ هل أصابك الصمم؟ قل لي الآن: كيف تجرأت ولامستها بجسدك القذر هذا؟
عاد خيال الرجل إلى ساعة أو ربما أكثر أو أقل قليلاً، فقد تشابك الزمن عندما أحاطت به دزينة من رجال الشرطة، واقتيد إلى هذا المكان، كان قبلها يظن أنه أخيراً عثر على مذاق يحلم به بالجنة، أي غبي بوسعه أن يتجاهل دعوة فاتنة مجللة بالأحمر، لون الغواية الذي لا يفلت منه حتى القديس، فما بالك برجل مسكين كل ما فيه يعاني من الجفاف والتصحر.
أيقظه الكف الآخر من أفكاره، وارتفع صوت الضابط مجلجلاً حتى تيقن المسكين أن جدران المكتب سوف تطبق عليه وتدفنه بينها، مطالباً إياه بتبرير تجاسره على وطء تلك الفاتنة. وقبل أن يفكر هذه المرة وجد نفسه يقول:
"أقسم بالله يا سيدي أنها هي التي دعتني".
انفجر الضابط ضاحكاً، ثم عاد وارتدى حلة الهيبة المصطنعة وقال:
"ماذا؟ ماذا تقول؟ هل ستتظاهر بالجنون لكي تفلت من العقاب. قديمة. لن ينطلي علينا جنونك المزعوم".
"لست مجنوناً يا سيدي، أقسم بالله أنها هي من دعتني".
شده الضابط من شعره، وبصق في وجهه، ثم قال: "لا تحاول أن تلعب هذا الدور معي. هل فهمت؟"
اسمعني يا سيدي، أنا رجل بسيط، لا أعرف كيف ألعب أدواراً، وما حدث أنني كنت في الساحة بين زملائي المتعيشين على باب الله، ننتظر طلباً للتنظيف، أو الطلاء، أو الإعمار، أو أي شيء يجلب لنا بعض المال، لنشتري به قوت يومنا.
جاء رجل أنيق يضع على عينيه نظارة شمسية سوداء، وأشار إلي لأتبعه، انعكست أشعة الشمس عن خاتم ذهبي يضعه في إصبع كفه اليمنى التي أشار إلي بها، فأزعجت عيني، أدرت وجهي لأتفادى النور، فأنا يا سيدي رجل الأقبية المظلمة، ثم مضيت ورائه دون صوت، ركبت معه في السيارة.
حسناً، لا بد أن أخبرك أنه قبل أن أصعد في سيارته، بسط على المقعد الذي سوف أجلس به كيس قمامة جديد لئلا تتسخ مقاعد سيارته بثيابي، أقسم يا سيدي أن هذا ما حصل، ثم أخذني إلى مكان بعيد، وأدخلني مكاناً فيه من الأحجار ما يملأ هذه الغرفة، بل ربما الغرفة المجاورة أيضاً، وطلب مني إخراج تلك الأحجار إلى ساحة قريبة من المكان.
بقيت أعمل على إخراجها أكثر من خمس ساعات حتى صار المكان خالياً من أي حجر، فطلب مني أن أكنسه وأمسحه، فعلت ما طلبه دون أدنى تردد، وعندما انتهيت، أصعدني السيارة الفارهة ذاتها، فوق كيس القمامة نفسه، وقبل أن نصل وضع في يدي بضع قطع نقود معدنية، دراهم معدودة فقط، جن جنوني، قلت له:
يا سيدي لقد عملت خمس ساعات متواصلة لقاء دراهم؟
فأجاب بكل برود: "أفضل من أن تبقى منتظراً في الشمس، اشتري سندويشاً وزجاجة بيبسي".
ثم فتح باب السيارة وألقى بي خارجاً، حتى أنه لم يتكبد عناء إرجاعي إلى المكان الذي أخذني منه.
صرخ الضابط متطيراً: "وما شأن ذلك كله بما فعلته؟"
رد الرجل:
نعم يا سيدي، سأكمل القصة، تريث قليلاً واسمعني أرجوك، عندما نزلت كنت في غاية التعب والإجهاد، فاتجهت إلى زاوية بعيدة في الشارع لأمدد جسدي في الفيء، لعلي أرتاح قليلاً.
كانت تقف على مقربة مني بثوبها الأحمر المثير، هكذا في منتصف الرصيف مستعرضة فتنتها لكل العيون الشاخصة حولها، وهي فاتنة بحق، لعلكَ رأيتها يا سيدي، فاتنة طرية لا تستطيع إلا أن تتمناها، نظرتُ إليها بحسرة، فهي لم تخلق لي بالتأكيد.
كنت متعباً حد البكاء، اشتهيتها من كل قلبي، لكنني كنت متعباً لا أريد شيئاً سوى أن أمدد جسدي في الفيء، فإذا بها تغمز لي، ظننت في البداية أنني أحلم، أو أنني جننت، لكنها فعلت ذلك مرة أخرى، وأشارت إلي لأقترب منها.
هذه المرة نورها هو الذي انعكس في عيني، فسلب مني إرادتي، وعقلي في آن واحد، ترددت في بداية الأمر، خشيت من عاقبة ذلك الإغواء، لكنني في لحظة ما فقدت كل قدرتي على المقاومة، كل ما أردته أن ألمس النسيج الأحمر الناعم الذي يحيط بها، فنهضت من مكاني، واتجهت إليها بخطى مترددة، ثم تلاشى التردد مني نهائياً، وصرت أمشي باصرار.
من حقي ولو لمرة واحدة أن أحظى بلمس هذا النسيج الأحمر، ولم أدر بنفسي إلا وأنا ألقي بجسدي بين أحضانها. كان شعوراً رائعاً، يستحق مني تلك المجازفة، فقط لو أنها أمهلتني قليلاً لأكمل حلمي. لكن وقبل أن أعي ما الذي فعلته، كان رجالك يحيطون بي، ضربوني بعصيهم، واقتادوني إلى هنا كما لو كنت كلباً.
"وهل تظن نفسك أفضل من الكلب؟" رد الضابط بعنجهية.
فأجاب الرجل: "حاشا لله يا سيدي".
أضاف الضابط:
ستسجن الآن نتيجة فعلك المتهور أيها الحمار. كيف سول لك عقلك الغبي أن تنظر إلى فوق؟ هل هي من طبقتك؟ هل يوجد في كل عائلتك من احتضن كائناً في مثل هذا الجمال؟ أمثالك يكفيهم أن يحتضنوا الأرض، أو الحصير، فلماذا رفعت نظرك إلى ما هو أعلى وأبعد من مستواك المنحط.
أخبرني الآن، كيف ستعوض الخسائر التي تسببت بها للمتجر، من ينظف الأريكة الحمراء من الأوساخ التي علقت بها عندما استلقيت عليها بثيابك القذرة، تلك الأريكة الحمراء أيها المعتوه سعرها أغلى منك ومن عائلتك معاً.

لبنى ياسين
أديبة وقاصة سورية