[author image="https://alwatan.com/v2/v2/wp-content/themes/watan/images/opinion/suodalharthy.jpg" alt="" class="avatar photo" height="60" width="60"]سعود بن علي الحارثي[/author]
” .. أحسنت يا ترامب بهذا القرار الجريء، فقد أكدت لنا أولا من هو العدو ومن الصديق من يكيد للعرب ويتآمر عليهم ويسعى لأن يوردهم المهالك، وفي أي ساحة أخلفت وعودك وأين أوفيت بها ؟ هذا أولا . ثانيا : لقد أيقظت العزائم وحركت الهمم وأرقت الضمائر الهادئة النائمة وأشعلت الغضب في شوارع العواصم العربية والإسلامية بعد سبات طويل، وفجرت طاقات الشعب الفلسطيني العظيم - الصامد والمجاهد والمؤمن بقضاياه...”
ـــــــــــــــــــــــــ

(جزى الله الشدائد كل خير ** عرفت بها صديقي من عدوي)، تذكرت هذا البيت البليغ - المعبر عن الحدث الجلل - من الشعر العربي الذي قيل قبل أكثر من ألف عام، فور تناقل وسائل الإعلام العالمي، قرار (ترامب) الخائب - وهل قدم هذا الرجل منذ أن وطئت قدماه البيت الأبيض إلا الويلات والخيبات للأمة الأميركية والعالم، إنه الوجه السيء للديمقراطية الغربية، وقد عفناها وكرهناها بسببه بعد أن تغنينا بها زمنا ؟ - لقد استثمر هذا الرئيس - الأسوأ من بين الخمسة والأربعين رئيسا الذين تناوبوا على رئاسة الولايات المتحدة الأميركية حتى الآن - وضع العالم العربي المزري، الذي تمزقه الخلافات وتنهشه التحزبات والتعصبات وتدمره الصراعات الأهلية والحروب الإقليمية، وتعيث فيه فسادا بضع شخصيات لا يهمها من الأمر إلا أن تمسك بزمام الأمور وتسيطر على كرسي الحكم وتضمن بأن تؤول مقاليد القوة والنفوذ والقرار إليها، وإن كان على حساب كرامة الأمة وخسارة المقدسات والأراضي العربية التي ضحى من أجلها العظماء والشرفاء والصالحين من رجالات ونساء هذه الأمة العظيمة، وعقد التحالفات مع ترامب ونتنياهوا وغيره ممن يقتنصون الفرص ويوظفون الوسائل والأدوات المتوفرة ويستثمرون كل ضعف وخلاف عربي لخدمة أهداف ومصالح الدولة الإسرائيلية، وما قرار ترامب الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل، ونقل السفارة الأميركية من تل أبيب إلى القدس، إلا خطوة من بين خطوات قادمة، ولكنها القدس يا ترامب، مليار مسلم يرددونها على مسامعك ومسامع كل من يقف خلفك ويدعم قرارك من بني جلدتنا، والقدس خط أحمر، لا ينبغي التعدي عليه وتجاوزه والمغامرة بشأنه، بالأخص إذا كان هذا التعدي والمغامرة الخطيرة وهذا التجاوز بلغت أقصى مراحلها، اختطافها وتقديمها هدية لأحبابك وأخلائك وأوليائك، والاعتراف بها عاصمة أبدية لدولة اسرائيل، والمضي قدما بهذا الاعتراف الذي - لم تقدر ومن معك حساباته ونتائجه - إلى طمس المعالم العربية في هذه المدينة التاريخية المقدسة العزيزة على قلوب كل عربي ومسلم - وويل لمن يتجاهل هذه الحقيقة الي تؤكدها أحداث وصفحات وقصص التاريخ - طمسا كاملا، وتغيير الخرائط الموثقة المتعارف عليها، التي رسمتها عزائم رجال شيدوا حضارة دانت لها الأمم والشعوب والحضارات، واستبدال الأسماء والمفاهيم التي حفظتها الذاكرة، ومضت عليها قرون من الزمن، وتزوير الحقائق التاريخية التي ثبتتها في صفحات التاريخ أقلام لم تعرف الكذب والخداع، أو الجنوح عن الحق قيد أنملة، ولم تعبث بقلوبها الأهواء والشطحات، وتشويه الملامح والصروح التراثية الشامخة، التي أسسها وأقام بناؤها الآباء، وكان على الأبناء لو وفوا الحقوق، وعرفوا قدرها، وظلوا على العهد لزام الدفاع عنها بالأرواح قبل الأموال، والعبث بالمقدسات المبرهنة على عظمة وعدالة ورسوخ الإسلام، بصور وأشكال مختلفة، وعلى رأسها بيت المقدس الشريف ومكوناته ومحيطه وتوابعه، والعمل على تجريدها من لبوسها الإسلامي، ومن المسحة التقديسية، ومن مكانتها التاريخية والدينية والثقافية والاجتماعية المرموقة في نفوس المسلمين، وتهيئتهم تدريجيا لتقبل هذا الوضع من خلال تصوره واقعا في المستقبل، لا محيص عنه بالتعامل مع تلك المقدسات، وكأنها منشآت عادية لا تختلف في شيء عن غيرها من الأبنية، أو مجرد أطلال من مخلفات التاريخ يمكن المساومة عليها، والتخلي عنها دون ضجيج أو ردات فعل قوية - ولن يتورع بأن يصنفها ترامب ومن معه ضمن أعمال الإرهاب التي لا يأتيها إلا الرعاع من الناس - وما عليكم أيها العرب إلا أن تتخلوا عن خيارات المقاومة والدفاع والجهاد وإلا فالتصنيف جاهز معد ... وأن تتخلوا عن أسلحتكم وعن قوتكم وشعاراتكم الكبيرة، وتؤمنوا وتتمسكوا بخيار السلام وبثقافة السلام، وأن تحبوا وتوادعوا من اعتدى عليكم، وسلب حقوقكم، لكي تتخلصوا وتسلموا من وصمة الإرهاب والعنف. نعم (جزى الله الشدائد كل خير)، وأحسنت يا ترامب بهذا القرار الجريء، فقد أكدت لنا أولا من هو العدو ومن الصديق من يكيد للعرب ويتآمر عليهم ويسعى لأن يوردهم المهالك، وفي أي ساحة أخلفت وعودك وأين أوفيت بها ؟ هذا أولا . ثانيا : لقد أيقظت العزائم وحركت الهمم وأرقت الضمائر الهادئة النائمة وأشعلت الغضب في شوارع العواصم العربية والإسلامية بعد سبات طويل، وفجرت طاقات الشعب الفلسطيني العظيم - الصامد والمجاهد والمؤمن بقضاياه الذي واصل ويواصل التضحيات جيلا بعد جيل - بعد هدوء استمر طويلا، وقدمت لهم رسالة ثمينة تبصرهم بالمخاطر وتعلمهم بأن هناك من يقتات على خلافاتهم ويثير فيهم النعرات المذهبية والعرقية ويعمل ليلا ونهارا لتحقيق مصالحه وأهدافه على خطى تشرذمهم وصراعاتهم واقتتالهم الداخلي وتضعهم أمام مسئولياتهم التاريخية، فاتفقت أكبر دولتين اسلاميتين متجاوزتين الخلاف السني الشيعي المفتعل، من أجل مصلحة الأمة ودفاعا عن فلسطين والقدس والأقصى، فقد أعلن قادة مؤتمر منظمة التعاون الإسلامي الاستثنائي الذي عقد بمدينة اسطنبول التركية في بيانهم الختامي القدس الشرقية عاصمة لدولة فلسطين، واعتبروا قرار ترامب “تقويضا متعمدا لجميع الجهود المبذولة لتحقيق السلام ويصب في مصلحة التطرف والإرهاب ويهدد السلم والأمن الدوليين”. فيما حذر الرئيس الفلسطيني محمود عباس أن الولايات المتحدة لم يعد لها دور في العملية السياسية. وقال الرئيس التركي أردوغان، إن “اسرائيل دولة احتلال وهي أيضا دولة إرهاب”، مضيفا أن القدس “خط أحمر”، هذا ثانيا . ثالثا : وحدت أمم العالم ودوله الصغرى والعظمى وقادته وزعماءه الكبار ليرددوا جميعهم
ذات الأيقونة الجميلة الرائعة التي تشرح النفس وتبهج القلب، لا نعترف (بسيادة الاحتلال الإسرائيلي على القدس ولا بضم القدس الشرقية)، (نرفض قرار ترامب الخاص بمدينة القدس)، (إسرائيل دولة احتلال وتمارس سياساتها التوسعية من خلال المستوطنات غير القانونية)، (لا نعترف بالقدس عاصمة لإسرائيل) ،(نحن مع حل الدولتين ومع أن تكون القدس الشرقية عاصمة لدولة فلسطين)، وهكذا يواصل العالم إدانته بأشد وأبلغ وأعمق عبارات الاستنكار القرار الترامبي (الخائب) . رابعا : فقد جعلت من قرارك (الخائب) - دون أن تدري وتقصد وتتنبأ، ومن أين لك أن تتنبأ بما لا تعرف ولاتفقه؟ - مدينة القدس منارة اشعاع للعالم تتألق في سمائه، والقضية الفلسطينية شغل هذا العالم وملفه الأساسي في المنظمات والمحافل والمنابر الدولية والاقليمية، وبند اجتماعاته الأهم الذي أخذ الاولوية وسيطر بشكل كامل على النقاش ووسائل الإعلام برمته، فحركت مياها كادت أن تركد، وهذا هو عز ما ننشده أن توحدنا القدس وتجمعنا القضية الفلسطينية ونعيد شتات شملنا ونوحد هدفنا وكلمتنا من أجلها. خامسا : لقد أكدت للعالم أجمع بأن رئيس أكبر دولة ديمقراطية في العالم - والذين يتشدق ساستها بنظامهم الحر ويعتبرونه نموذجا يجب الاقتداء به - لا يعبأ بالقيم والمبادئ الديمقراطية، ويضرب بكل بساطة وأريحية وعنجهية عرض الحائط بالقوانين والمبادئ والاتفاقيات التي أقرتها وأكدت عليها المنظمات والاتفاقيات الدولية، ومن أجل إسرائيل ومصالحها فإن أميركا مستعدة أن تدوس على مصالح وحقوق ومستقبل الشعوب الأخرى، فلا يوجد في قاموس السياسة الأميركية علاقات وصداقات وإنما مصالح ومخططات . سادسا : عزز وعمق وأكد قرارك على ثوابت السياسة العمانية التي اعتبرته (لا قيمة له)، وجدية وخبرة وأمانة دبلوماسيتها وخطها الواضح الشفاف المتوازن الذي لم تحد عنه قيد أنملة وإيمانها بالقضايا العربية والثوابت والقيم الإسلامية وتضحياتها من أجل وحدة الكلمة ولم الشمل كما أبانت عنه كلمة معالي الوزير المسؤول عن الشؤون الخارجية، في الاجتماع الطارئ لمجلس وزراء الخارجية العرب، التي أكدت على أنه (ليس من حسن التصرف أن نعبر عن مشاعرنا ونستنكر ما يقوم به الآخرون ولا نفعل شيئا)، وبأن جامعة الدول العربية (مؤسسة قوية لكنها ليست مسجدا فهي دار للسياسة والعمل بالسياسة) وقدم الكثير من الأفكار والمقترحات العملية التي تشكل خارطة طريق للملف الفلسطيني، وتحولت كلمته إلى نموذج لصدق النوايا وقوة الدبلوماسية العمانية وخبرتها العميقة وتشبثها بالحق الفلسطيني .
إن ما يسعى إليه ترامب ونتنياهو ومن حالفهم وشايعهم، أن يتقبل العرب والمسلمون بروح إيجابية مستسلمة بأن تصبح القدس مدينة تابعة للاحتلال الإسرائيلي وعاصمة أبدية لدولة إسرائيل، وأن يذعنوا بأن جميع ما فيها من آثار ومقدسات ومعالم ذات طابع ونكهة تاريخية
يهودية، وما للمسلمين فيها من حقوق تاريخية ودينية وسياسية واجتماعية وثقافية ... ما هي إلا ادعاءات كاذبة وافتراءات زائفة، إنها مخططات بارعة، تسوق للباطل فتجعل منه حقا، وتحول الحق إلى باطل، هذا ما تسعى إليه تلك القرارات الباطلة والتجاوزات والتعديات والمخططات الخطيرة التي تعبث بحقوق وقيم ومعتقدات وحضارة الأمة، ويجري تنفيذها وفق برامج ومراحل متسارعة، مدروسة ومبرمجة لتهويد المدينة بالكامل، وصولا إلى إخراس كل احتجاج أو مطالبة أو مقاومة قد تأتي من قبل العرب والمسلمين.
وقد تأقلم المسلمون بالفعل وبمرور الزمن مع تلك الممارسات الخطيرة على مستقبل المدينة، وعلى انتماءها العربي وهويتها الإسلامية، وألفوها واعتادوا عليها، فلم تعد تحركهم ولا تثير غضبهم ولا حساسيتهم، وكأنهم قد استسلموا للوضع وخضعوا للأمر الواقع وهو ما أبلغنا إلى هذه المرحلة المتقدمة من العبث والعنجهية وإلى هذا القرار الخطير .. مشهد حقيقي لا مبالغة فيه نراه واقعا ملموسا، نعيشه ونستشعره، يمارسه ساسة تل أبيب على الأرض، تفصل ملامحه، وترسم معالمه وتنشر صوره وتبرز آثاره ومخاطره وسائل الإعلام المختلف يوما بعد آخر، صور ومشاهد وممارسات مؤلمة لمن يتبين مخاطرها، وجسامتها تدمي القلب وتؤذي المشاعر، وتخيف أصحاب الضمائر الحية، وما غضبنا من أجله قبل سنوات من ممارسات وتغييرات ومخططات، تستهدف المدينة المقدسة، ونددنا وشجبنا وحملنا السلاح لمواجهته، وتداعينا للاجتماع واتخاذ المواقف الحاسمة، أصبح اليوم حقيقة قائمة، قبلنا بها وتآلفنا معها ورضينا بها، «مدينة القدس العربية خط أحمر لا ينبغي التعدي عليه وتجاوزه، ولكن أين هي الخطوط الحمراء التي لم يتم تخطيها وتجاوزها، والاعتداء والاجتراء عليها؟
هل ستتحول مدينة القدس إلى مدينة إسرائيلية خالصة، وهل سنتخلى عنها في نهاية المطاف؟ وهل سنفقدها كما فقدنا مدنا كبيرة وعظيمة من قبل؟ وهل سيحرم المسلمون من الصلاة في المسجد الأقصى؟ وهل سيتحول هذا المقدس الجامع إلى شيء آخر غير ما نراه ونعلمه الآن؟ . قرار ترامب وما أحدثه من انتفاضة في شوارع المدن العربية والاسلامية، يعبر بكل جلاء أن الأمة ما تزال حية وأن نبض الكرامة والعزة وروح الحرية تستجيب بقوة للدفاع عن المقدسات والحقوق الوطنية والتاريخية والدينية وأن الخطوط المحرمة ما تزال ألوانها واضحة جلية برغم التحديات والمصاعب الهائلة التي يعيشها المواطن العربي، وتخاذل البعض منا، فشكرا لك ترامب، ويجب أن تدرك وتتعلم بأن القدس خط أحمر يستحيل الاقتراب منه فضلا عن تخطيه والمرور عليه بأريحية وعدم مبالاة.

[email protected]