[author image="https://alwatan.com/v2/v2/wp-content/themes/watan/images/opinion/ahmedalkadedy.jpg" alt="" class="avatar photo" height="60" width="60"]د.أحمد القديدي[/author]
” .. إن تفسير الظاهرة الداعشية لا يستقيم إلا بالوضع الهش للدولة العراقية لا منذ سقوط صدام حسين بل منذ سقوط الملكية عام 1958 و أيضا بالحالة المستعصية التي بلغتها سوريا ففي العراق يبدو أن الانتماء الطائفي تغلب على الانحياز للوطن وظهر ذلك من قيادات شيعية وقيادات سنية مضادة ومن أكراد استقلوا بسلطتهم وتركمان ضاعوا في زحمة الأحداث المأساوية..”
ـــــــــــــــــــــــــ
انطلق مسلسل تقليدي معروف من المغالطات المقصود بها تضليل العرب والمسلمين عموما (من الضلال لا من الظلال) وحبك المؤامرة الكبرى لمزيد تثبيت حبل الباطل حول أعناقنا في استمرار طويل وعجيب من الأراجيف التي تدلس تاريخنا وتسهل على القوى الصليبية والصهيونية المتحدة تنفيذ عملية قتل الفهد أو ترويضه إذا تعذر قتله حتى يتحول ذلك المفترس المغوار إلى حيوان بائس يهرج ويضحك الجمهور في قفص السيرك العالمي (أي النظام العالمي) وهذه الصورة المرعبة والتشبيه المخيف بين الأمة الإسلامية والفهد القوي الحر لم أبتكرهما بل قرأت هذه الفكرة في أحد مقالات منظر التطرف الغربي (برنار لويس) وهو بريطاني من الديانة اليهودية كما سمعته من فمه حين حضرت محاضرته في باريس منذ ربع القرن وهو الذي اعترف الرئيس جورج بوش الابن قائد الحملة الصليبية العاشرة بأن كتبه هي التي يقرأها ويستلهم منها حربه على أفغانستان ثم على العراق ولا تفارق طاولة فراشه الوثير في البيت الأبيض! وأنا حين أنعت بوش بقائد الحملة الصليبية العاشرة إنما أعيد ما قاله هو عن نفسه حين وصف حربه على العراق بكونها (حملة صليبية CRUSADES) ثم حين قال على شاشة سي إن إن أنه يأتمر بأوامر "الرب يسوع" الذي يزوره في المنام ويملي عليه سلوكه وجاءت مذكرات الجنرال (كولن باول) لتؤكد هذه الحقائق وهو الذي حلل كيفية إتخاذ رئيسه لقرارات الحرب في حالة ذهول أمام تخيلات روحية وهمية! وأرجو أن تلاحظوا أيها القراء العرب المسلمون هذه المفارقات العجيبة التي تجعلنا نصدق هؤلاء حين ينصحوننا بمباركة ذيولهم العرب بعدم الخلط بين الدين والدولة وعدم إقحام الدين في تنظيم شؤون السياسة !!! لا حول ولا قوة إلا بالله. وهم الذين يخضعون كل دساتيرهم ومؤسسات دولهم ومواثيق أحزابهم للوصايا العشر بحق أو بباطل وهم الذين أنشأوا الإتحاد الأوروبي على أسس إنجيلية واستلهموا كل مؤسساته الدستورية والسياسية والبرلمانية والمالية من كتاب الخلافة الإسلامية الذي نشره عبد الرزاق السنهوري في باريس سنة 1928 وإلا كيف نفسر رفض الإتحاد الأوروبي لانضمام تركيا لهذا النادي المسيحي كما وصفه الزعيم التركي نجم الدين أربكان أستاذ أردوجان وجول بينما تطالب تركيا وهي أوروبية منذ نصف قرن بعضوية الإتحاد؟ وصدق أربكان حين قال: إن تركيا تفضل أن تكون الأولى إسلاميا على أن تكون ذيلا أوروبيا ! و الجواب هو أن الإتحاد مؤسسة قائمة على الدين المسيحي بأقنعة "علمانية" مزيفة لتمرير مشروع الهيمنة الصليبية الجديدة لا غير ولأن تركيا بلد مسلم، ثم كيف نفسر عضوية النصف اليوناني المسيحي لجزيرة قبرص في الإتحاد وحرمان النصف التركي المسلم من هذه العضوية؟ كما أن قبول جزيرة مالطا عضوا في الإتحاد أمر لا يفسر بغير الاشتراك في الدين لأن مالطا بعيدة جدا عن أوروبا تاريخيا وجغرافيا في حين أن أجدادنا نحن أبناء المغرب الإسلامي هم الذين أنقذوا فرنسا بالذات من الإحتلال النازي حين جمع الجنرال (لوكليرك) جيشا من الجزائريين والتوانسة والمغاربة والسنغال في مارس 1944 و أبحر بهم إلى جنوب فرنسا في يونيو 44 ليحرر باريس بهؤلاء الذين يقف اليوم أبناؤهم وأحفادهم طوابير مخزية أمام قنصليات فرنسا لمجرد الحصول على التأشيرة لزيارة قريب أو للدراسة أو للسياحة! بينما يدخل المواطن الفرنسي إلى بلداننا ببطاقة هوية! إن الغرب أنشأ خلافاته المسيحية ويتهم كل مسلم ينحاز إلى الوحدة الإسلامية بالتطرف والإرهاب!
نشأ العنف في جمهوريات العالم العربي متزامنا مع تغول الدولة الوطنية وعنفها الخارج عن كل القوانين والأخلاق واستبداد قادتها بأجهزتها وإقصاء الفئات المستضعفة من التمتع بثمار التنمية ومن هذه الفئات فئة الشباب الذي تعلم في مدارسها وتخرج في جامعاتها لكنه ظل بلا إندماج فعلي في آليات النمو والترقي الاجتماعي لأنه بلا شغل وبلا هوية بسبب أخطاء التقدير في مناهج التعليم التي همشت قطاعات الزراعة والعمل اليدوي والخبرة الفنية والتعريف بأمجاد الإسلام مضافا إلى هجرة داخلية "طبيعية " للبحث عن دور وعن موقع وهي ظاهرة شكلت حول المدن العربية الكبرى والمتوسطة أحزمة من القرى العشوائية يملأها شباب متعلم وعاطل ويبحث عن معنى لحياته وهوية لذاته فماذا وجد هذا الشباب من أجوبة لأسئلته المشروعة من هياكل الدولة البوليسية؟ لا شيء بل تلقته أجهزة الدول بالتعاطي الأمني والقمع والمزيد من التهميش فكان الحل الجاهز على شاشات الكمبيوتر والهاتف الذكي هو سهولة الانتماء إلى تشكيلات جاهزة لاستقباله عجينة عذراء يقتنع بما يقال له من أن الإسلام في خطر وأن الأمة مهددة (وفي هذا ماهو حق) ولكن الخطأ ليس في تشخيص حال الأمة بل في العلاج الناجع للتخلف والتبعية و التذيل.
من هنا جاءت قوافل الشباب التونسي على سبيل المثال للإلتحاق بسوريا والعراق وهم يستحضرون جهاد الجيل الذي سبقهم إلى أفغانستان في السبعينيات لقتال الجيش السوفييتي المحتل وانتصارات القاعدة (مؤقتا) على المحتلين ودخول طالبان إلى كابل معززة بمجاهدين من كل أصقاع الأمة الإسلامية! وإذا ضربت مثال بعض الشباب التوانسة فلمعرفتي بمجتمعي أكثر من سواه إنما تتشابه أوضاع كل شباب الشمال الإفريقي والمصريين والشوام والفلسطينيين والسودانيين واليمنيين وبعض الفئات الخليجية في جذع مشترك واحد وهو إفلاس المنظومة التربوية التي حشرت برامج التعليم بقشور القيم الزائفة من تمجيد الزعيم الأوحد والخلط بين النظام وهو متحول وبين الوطن وهو ثا بت. ثم إن تفسير الظاهرة الداعشية لا يستقيم إلا بالوضع الهش للدولة العراقية لا منذ سقوط صدام حسين بل منذ سقوط الملكية عام 1958 و أيضا بالحالة المستعصية التي بلغتها سوريا ففي العراق يبدو أن الانتماء الطائفي تغلب على الإنحياز للوطن وظهر ذلك من قيادات شيعية وقيادات سنية مضادة ومن أكراد استقلوا بسلطتهم وتركمان ضاعوا في زحمة الأحداث المأساوية وصادف أن تحادثت في هذه المعضلات مع طارق الهاشمي الذي قبل بمنصب نائب رئيس الجمهورية العراقية قبل أن تستهدفه المكائد ويحكم عليه بالإعدام فوجدت تحليل الرجل صائبا ومتوقعا لما حدث بعد ذلك.
حين دخلت داعش واستولت على الموصل وتكريت وهي اليوم على بعد 60 كلم عن بغداد وجدت نفسها مثل السمكة في الماء لأن العشائر السنية غاضبة من الإنحراف الطائفي لحكومة المالكي ولم تنل حظها الموعود من الحكم أو التنمية كما وجدت داعش ضباط وجنود الجيش النظامي العراقي القديم قابعين صابرين على محنة التقاعد المزري المفروض منذ 2003 بل ومن البؤس بعد مؤامرة (بريمر) والمعارضة القادمة معه على مؤسسة الجيش العراقي فحلوه وسرحوا أبطاله فكانت داعش في الحقيقة مجرد عود ثقاب أشعل فتيل وضع قابل للانفجار تلقائيا. هذه بعض الحقائق الموضوعية ليستنير بها أولئك الذين ينساقون وراء دجل المتطرفين الصليبيين والصهاينة فيصبحون لهم أبواقا تردد ما يدعون. إننا نرفض كل إرهاب ونندد بكل عنف لكن بالبصيرة وهي أهم من البصر.