[author image="https://alwatan.com/v2/v2/wp-content/themes/watan/images/opinion/mohamedabdel.jpg" alt="" class="avatar photo" height="60" width="60"]محمد عبد الصادق[/author]
” اهتم الخلفاء الأمويون والعباسيون بالمدينة المقدسة وشهدت نهضة معمارية وعلمية في مختلف الميادين, لكن هذا الازدهار سرعان ما خفت نتيجة عدم الاستقرار الذي شهدته الدولة العباسية وانقسامها إلى دويلات عديدة هزيلة مما أغرى الصليبيين بالعودة للمشرق العربي من جديد ,وبالفعل دخلوا القدس يوم 15يوليو سنة 1099 ميلادية بحجة التدخل لرفع الظلم والاضطهاد الذي يتعرض له المسيحيون وحماية طريق الحجاج الأوروبيين في رحلتهم إلى بيت المقدس, ”
ـــــــ
قد يظن البعض أن الصراع على القدس بين العرب والمسلمين والكيان الصهيوني قد بدأ مع قيام إسرائيل في سنة 1948م أو أن تاريخه لا يعدو وعد "بلفور" سنة 1917م , لكن الحقيقة أن الصراع على مدينة القدس يتعدى عمره آلاف السنين منذ بناها اليبوسيون وهم إحدى القبائل الكنعانية العربية التي هاجرت في الألف الثالث قبل الميلاد من الجزيرة العربية واستوطنت القدس قبل مئات السنين من مجئ داود وسليمان عليهما السلام اللذين أعادا إعمار المدينة المقدسة, ولن ينتهي الصراع المحتوم بتوقيع ترامب على نقل السفارة الأميركية من تل أبيب إلى القدس.
فالصراع بدأ قبل ظهور المسيحية والإسلام وكانت له علاقة بالصراع بين القوى العظمى المسيطرة على العالم بابل وآشور والفرس والروم, البطالمة والإسكندر الأكبر المسلمين والصليبيين, الفرنسيين والإنجليز والعثمانيين؛ فمن يملك "القدس" يملك العالم.
ظل الصراع بين الفرس والروم على القدس وبلاد الشام عقودا طويلة حتى ظهور الإسلام الذي أولى بيت المقدس على وجه الخصوص أهمية كبيرة كونه مسرى النبي محمد عليه الصلاة والسلام وأولى القبلتين وثالث الحرمين, ولم ينتظر الخليفة عمر بن الخطاب طويلا وقرر استكمال ما بدأه أبو بكر الصديق وأرسل حملة بقيادة أبو عبيدة بن الجراح لفتح بلاد الشام في عام 19 هجرية الموافق 633 ميلادية , ونجحت الحملة في فتح معظم الأمصار, ولكن القدس استعصت عليهم لمناعة أسوارها واعتصام سكانها وراء الأبراج المحصنة وعندما طال حصار المسلمين لها, طلب رئيس الأساقفة تسليم المدينة للمسلمين ولكنه اشترط تسليمها للخليفة عمرو بن الخطاب شخصيا؛ الذي قرر الذهاب للقدس بعد استشارة الصحابة ومعه خادمه وناقة في رحلة شاقة وما أن وصلا مشارف القدس, حتى أطل عليهما الأساقفة وسألوا من هذين الرجلين؟! .. فقال المسلمون إنه عمر بن الخطاب وخادمه, واستفسروا أيهما عمر, فقيل لهم الواقف على قدميه إذ كان خادمه ممتطيا الناقة فذهلوا وسلموا المدينة لابن الخطاب الذي كتب مع المسيحيين وثيقة عرفت باسم "العهدة العمرية" وهي تنص على منحهم الحرية الدينية مقابل دفع الجزية وتعهد بالحفاظ على ممتلكاتهم ومقدساتهم ورفض الصلاة في الكنيسة حتى لا يتم تحويلها من بعده إلى مسجد , وسمح عمر للجميع بممارسة شعائرهم الدينية مقابل الجزية.
بحث عمر بن الخطاب عن مكان المسجد الأقصى المذكور في القرآن والصخرة المقدسة التي عرج منها الرسول محمد إلى السماء العليا؛ مستندا لما سمعه من النبي محمد ليلة الإسراء والمعراج , وسأل الصحابة وكعب الأحبار وهو من يهود المدينة الذين أسلموا واستعان ببطريرك كنيسة القيامة, حتى عثر على مكان المسجد الأقصى والصخرة المقدسة وكان المكان مطمورا بالأتربة التي تكاد تخفي معالمه, وقرر بن الخطاب إقامة مسجد موضع المسجد الأول وهو "المسجد القبلي" الذي يؤدي فيه المسلمون حتى الآن الصلوات داخل حرم المسجد الأقصى (الذي يشمل كل ماهو داخل السور) وأقام مظلة خشبية فوق الصخرة المقدسة وفي العصر الأموي تم استبدال المظلة بقبة وسميت بقبة الصخرة إلى أن جاء الخليفة الأموي عبد الملك بن مروان وجعل القبة ذهبية وبنى تحتها مسجد قبة الصخرة ومازالت القبة محتفظة ببريقها, شامخة حتى الآن تأسر أنظار الزائرين بمجرد دخولهم المدينة المقدسة.
اهتم الخلفاء الأمويون والعباسيون بالمدينة المقدسة وشهدت نهضة معمارية وعلمية في مختلف الميادين, لكن هذا الازدهار سرعان ما خفت نتيجة عدم الاستقرار الذي شهدته الدولة العباسية وانقسامها إلى دويلات عديدة هزيلة مما أغرى الصليبيين بالعودة للمشرق العربي من جديد وبالفعل دخلوا القدس يوم 15يوليو سنة 1099 ميلادية بحجة التدخل لرفع الظلم والاضطهاد الذي يتعرض له المسيحيون وحماية طريق الحجاج الأوروبيين في رحلتهم إلى بيت المقدس, وأرسلت أوروبا جيوشها عبر القسطنطينية (تركيا الآن قبل فتحها على أيدي العثمانيين) وفرضت حصارا محكما على المدينة المقدسة استمر قرابة أربعين يوما حتى سقطت المدينة, وأعملوا القتل والتنكيل في العرب والمسلمين حتى وصل عدد القتلى إلى 70 ألفا وانتهكوا المساجد والمقدسات الإسلامية وأوقفوا ممارسة الشعائر الأرثوذكسية وفرضوا المذهب الكاثوليكي على مسيحيي القدس مما أثار حنق المقدسيين المسيحيين على الصليبيين وجعلوهم يتعاونون مع المقدسيين المسلمين ويستنجدون بالقادة المسلمين لتخليص القدس من أسر الصليبيين, وبعد أكثر من ثمانين عاما من الاحتلال استجاب صلاح الدين الأيوبي سنة 1187م ونجح في استرداد بيت المقدس وطرد الصليبيين منها بعد معركة حطين الشهيرة, ودخل البطل المنتصر المدينة المقدسة وأزال الصليب عن قبة الصخرة وسط ترحيب وهتاف المسلمين والمسيحيين الذين تجرعوا الظلم والتعذيب على أيدي الصليبيين, طمأن صلاح الدين سكان القدس وأحسن معاملتهم ودعا المقدسيين المهجرين إلى العودة إلى ديارهم.
اهتم صلاح الدين بإعادة إعمار المدينة وأعاد لها رونقها المعماري ووجهها الحضاري كمنارة للشرق التي حاول الصليبيون طمسها وقام بتقوية القلاع وإعادة بناء الحصون وترك حامية عسكرية قوية للدفاع عن المدينة ومنع الغزاة من العودة من جديد.
ولكن للأسف لم يستمر الحال عقب وفاة صلاح الدين حيث انهمك أولاده في النزاع فيما بينهم وانصرفوا عن محاربة الصليبيين وتفتتت الدولة الأيوبية لدويلات صغيرة وانشغل الولاة عن العناية بالقدس حتى ضعفت وأفل نجمها وتحولت إلى مجرد قرية مهملة , مما أغرى الصليبيين بمعاودة غزوها واحتلالها من جديد وأعادوا نفس الممارسات البربرية من قتل وتخريب وتهجير للعرب والمسلمين وتدنيس قبة الصخرة بالصليب , واستمر الاحتلال الصليبي للمدينة المقدسة هذه المرة إحدى عشرة سنة , حتى استردها الملك الصالح نجم الدين أيوب حفيد صلاح الدين عام 1244م .
لم تهنأ القدس بالاستقرار, إذ سرعان ما تعرضت لجحافل التتار الذين اجتاحوا الدولة الإسلامية وقضوا على القسم الأعظم من سكانها ونهبوا وخربوا وعاثوا في القدس فسادا لمدة 14 سنة, حتى جاء سيف الدين قطز والظاهر بيبرس وأعدا جيشا من أبناء مصر والشام وهزموا التتار في موقعة عين جالوت عام 1259م وانضمت فلسطين وعاصمتها القدس إلى السلطنة المملوكية التي حكمت مصر وبلاد الشام حتى عام 1517م.

محمد عبد الصادق
كاتب صحفي مصري