[author image="https://alwatan.com/v2/v2/wp-content/uploads/2016/07/yy.jpg" alt="" class="avatar photo" height="60" width="60"]د. صلاح الديب[/author]
”.. يعد التحكيم جزء من القضاء أو صورة مبسطة من صوره بحيث يسهل اختياره في القضايا واضحة المعالم والتي لا تتطلب إجراءات مطولة من البحث والاستقصاء وذلك بهدف إنهاء الخلافات الممكن إنهاؤها سريعا لتقديم مبدأ الصلح والحرص على حفظ العلاقات الإنسانية من الفساد في نفس الوقت الذي يتم فيه حفظ الحقوق والفصل بين المتنازعين بصورة أقرب للودية من التي تتم في مجلس القاضي أمام حشود من الناس على اختلاف قضاياهم ومنازعاتهم ”
ـــــــــــــ
استكمالا للمقال السابق والذى بدأنا فيه عرض التحكيم كأحد وأهم وأسرع وأبسط طرق الفصل في المنازعات وأيضا يساعد على تخفيف العبء عن القضاء بما يشهده من قضايا لا حصر لها مما يتسبب بشكل مباشر على سرعة الفصل في القضايا وبما ينتج عنه فتح الباب لتعطيل مصالح وحقوق أصحاب الحقوق وأيضا يفتح للمستفيدين من تأخر الفصل في القضايا والتحكيم ليس بالظاهرة الحديثة لكنها قديمة جدا .
ولقد ظهر التحكيم كوسيلة أولية فاعلة في إنهاء الخلافات بين البشر منذ القدم.
فحين لم تكن قد نشأت من قبل دور القضاء ولا تسويات كان الحل الافتراضي هو التقاضي إلى شخص يتسم بالنزاهة والخبرة والعدالة ليستمع إلى أطراف النزاع اللذين يختارانه بقناعة وقبول مسبقين لحكمه نظرا لما عرف عليه بين الناس من صفات حميدة تجعل في حكمه حكمة وفي موقفه حيادا من الطرفين يطمئنهما إليه .
ولقد ظهرت إذن قصص التحكيم واضحة في تاريخنا من قبل بزوغ فجر الإسلام، كما في قصة الحجر الأسود ثم من بعده كما حدث في حوادث كثيرة مشهورة كان أبرزها ما جرى من شقاق شديد بين المسلمين قامت على إثره معركة صفين حيث انقسم المسلمون إلى فريقين فريق مع خلافة علي بن أبي طالب لعثمان بن عفان رضي الله عنه وفريق آخر ينكر خلافة علي ويراها لا تصلح إلا لمعاوية بن أبي سفيان، وغني عن القول ما أسفرت عنه هذه الفتنة الشديدة بين المسلمين، حيث قضت على الكثير من الأرواح. ولم يكن القتال بين المسلمين ليتوقف لولا أن لجأ الفريقان إلى مبدأ التحكيم باختيار عمرو بن العاص حكما عن فريق معاوية بن سفيان، وأبو موسى الأشعري حكما عن فريق علي بن أبي طالب رضي الله عنهما، حيث عاد كل فريق إلى مكانه، وحرر الأسرى من الطرفين ودفن القتلى حتى كان يدفن في القبر الواحد خمسون رجلا.
وكذلك ذكر التحكيم في قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا لِيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ عَفَا اللهُ عَمَّا سَلَفَ وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللهُ مِنْهُ وَاللهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ) سورة المائدة آية 95 .
فمن خلالها يترك الشرع تقدير الدم الواجب على من قتل صيدا في فترة إحرامه لشخصين عدلين من المسلمين حسب نوع ما قتل من الصيد وهذه حالة أخرى للتحكيم لا تجعله يقتصر على فض النزاعات بل يصل أيضا إلى تقديم المشورة بناء على الخبرة وحسن التقدير .
ويتضح من خلال ما سبق أن التحكيم له أهمية كبيرة ويعد التحكيم جزء من القضاء أو صورة مبسطة من صوره بحيث يسهل اختياره في القضايا واضحة المعالم والتي لا تتطلب إجراءات مطولة من البحث والاستقصاء وذلك بهدف إنهاء الخلافات الممكن إنهاؤها سريعا لتقديم مبدأ الصلح والحرص على حفظ العلاقات الإنسانية من الفساد في نفس الوقت الذي يتم فيه حفظ الحقوق والفصل بين المتنازعين بصورة أقرب للودية من التي تتم في مجلس القاضي أمام حشود من الناس على اختلاف قضاياهم ومنازعاتهم .
ولهذا فسوف نكون معنيين وبشكل مستمر إن شاء الله في إن نقوم بعمل توعية لنشر ثقافة التحكيم في الوطن العربي وأيضا سوف نسلط الضوء بشكل واضح وصريح على إهمية تأهيل الكوادر الذين يعملون في مجال التحكيم وأيضا الحد من أنها تكون مجرد ألقاب للوجاهة الاجتماعية بل تكون على أساس علمي وإيضا يجب أن يكون هناك بشكل مستمر نوع متابعة كل ما هو جديد في مجال التحكيم بما يضمن لنا الاستفادة بشكل جيد وسليم من التحكيم كأحد وسائل الفصل في المنازعات ويوجد العديد من الأسباب التي أدت إلى عدم انتشار ثقافة التحكيم وأيضا إظهار أهميته في دولنا العربية وهو في المقام الأول التوضيح إلى كل الأطراف إلى أهمية ومميزات التحكيم في الفصل في المنازعات بين الأطراف .
وفي المقام الثاني والذي لا يقل أهمية عن التوضيح لطرفى النزاع ألا وهو عدم وجود كوادر تعمل في التحكيم بشكل مؤهل علميا وعمليا يكون لهم القدرة والكفاءة للعمل على نشر ثقافة التحكيم والقدرة على الفصل في المنازعات بما يزيد في ثقة جميع الأطراف للاتجاه إلى التحكيم كأحد وأهم طرق الفصل في المنازعات بما يضمن لهم سرعة الفصل والحصول على حقوقهم في الوقت المناسب بما يؤدى إلى تنامي دور الاستثمار بين الشركات في البلد الواحد أو بين الشركات في البلاد المختلفة.
وتعد ميزات التحكيم كثيرة جدا ومنها ما يمكن ذكره على سبيل المثال :-
- سرعة الفصل في المنازعات والمرونة والاقتصاد بالنفقات .
- عدم التقيد بتطبيق قانون معين، حيث إنه بالإمكان الاتفاق على القانون الذي سيتم تطبيقه والذي سيتم على أساسه الفصل في النزاع وهذا يحل المشاكل في حال وجود أطراف من دول مختلفة أو جود دول ومنظمات أجنبية كأطراف في النزاع، حيث يتم اختيار القانون الذي سيتم تطبيقه ولا يفرض قانون دولة معينة للفصل بالنزاع هذه إحدى ميزات المرونة التي يتصف بها التحكيم .
- صدور الحكم عن خبراء بمجالات معينة بما أن التحكيم لا يشترط على المحكم أن يكون حائزا على شهادة بالقانون كما هو الحال في القضاء وبعض الخلافات تتطلب خبراء بمجالات معينة للفصل بها وهذه إحدى ميزات المرونة التي يتصف بها التحكيم .
- وجود فرص أكبر لحل الخلافات عن طريق الصلح خاصة إذا كان المحكم مفوضا بالصلح، حيث وإنه بما أن أعضاء هيئة التحكيم يتم اختيارها من قبل أطراف النزاع فأنهم في الغالب يحاولون تقريب وجهات النظر بين أطراف النزاع وصلا إلى حل توافقي .
- تناول الخلاف بشكل يكفل السرية مما يحفظ الطرفان من نتائج إعلان الخلاف خاصة في المعاملات التجارية حيث لا يشترط العلانية في الجلسات.
- تخفيف أعباء القضاء من حيث عدم العودة إليه في كل النزاعات التي قد تنشأ .
- يفسح المجال للأطراف لاختيار الأشخاص الذين سيقومون بالفصل في النزاع الأمر الذي سيؤدي الاطمئنان إلى أحكامهم .
- وجود اتفاقيات دولية مثل اتفاقية نيويورك عام 1958 تسهل تطبيق أحكام المحكمين في دول أخرى غير الدولة التي صدرت فيها الأحكام .
- تخضع الأحكام الصادر عن المحكمين لطرق طعن أقل من طرق الطعن بالنسبة للأحكام الصادرة عن المحاكم وفي حال كان الحكم صادرا عن محكم مفوض بالصلح فإنه لا يكون قابلا للطعن .
ولهذا وجب علينا التنبيه أن من أحد أهم الأسباب التى تعيق الاعتماد على التحكيم ونشر ثقافته أنه لا توجد كوادر مؤهلة بشكل علمي وعملي جيد مع إننا نجد آلافا من يحملون لقب "مستشار في التحكيم الدولي "دون أن يعي الفرق بين ماهي الموضوعات التي يمكن للتحكيم الفصل فيها وبين ما لا يصلح الفصل فيه عن طريق التحكيم وأيضا لا يعي الفرق بين الإجراءات ولا حتى القوانين التي يستند إليها عند الفصل في المنازعات .

د. صلاح الديب
رئيس المركز العربي للاستشارات وإدارة الأزمات وخبير إدارة الأزمات في مصر والوطن العربي
[email protected]