في رمضان يقبل كثير من الناس على كتاب الله تعالى قراءة وحفظاً ، وأحياناً تفسيراً وتدبراً، وما ذاك إلا لأن رمضان موسم للخيرات ، تتنوع فيه الطاعات ، وينشط فيه العبّادُ بعد أن سلسلت الشياطين ، وفتحت أبواب الجنان ، وغلقت أبواب النيران .
ورمضان هو الشهر الذي أنزل فيه القرآن (هُدىً للناس وبينات من الهدى والفُرقان) وكان جبريل عليه السلام يدارس فيه الرسول صلى الله عليه وسلم القرآن ، فالحديث عن القرآن في رمضان ، له مناسبته وله خصوصيته ولا سيما مع أقبال الناس عليه .
وُصِفَ هذا القرآن بأنه (هُدىً للمُتّقِينَ) يهتدون بآياته ومعانيه فيخرجهم من ظلمات الشرك والجهل والذنوب إلى نور التوحيد والعلم والطاعة، يهتدون به فيما يعود عليهم بالصلاح في دنياهم وأخراهم (إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات أنّ لهم أجراً كبيراً).
عِبَرهُ أعظم العبر ، ومواعظه أبلغ المواعظ ،وقصصه أحسن القَصص ،(نحن نقُصُّ عليك أحسنَ القَصَصِ بما أوحينا إليك هذا القرآن وإن كنتَ من قبله لمن الغافلين)، (يا أيها الناس قدْ جاءتكم موعظةٌ من ربكم وشفاءٌ لما في الصدور وهديً ورحمةٌ للمؤمنين) شفاء للصدور من الشُبَهِ والشكوك ، والريب والأمراض التي تفتك بالقلوب والأبدان ، ولكن هذا الشفاء لا ينتفع به إلا المؤمنون ( ونُنُزِّلُ من القرآن ما هو شفاء ورحمةٌ للمؤمنين ولا يزيدُ الظالمين إلاّ خَسَاراً)،(قل هُوَ للذين آمنوا هُدىً وشفاءٌ).
وهو مع هدايته للمؤمنين حسم أكثر الخلاف بين اليهود والنصارى في كثير من مسائلهم وتاريخهم وأحبارهم ، كاختلافهم في عيسى وأمه عليهما السلام ، واختلافهم في كثير من أنبيائهم (إنّ هذا القرآن يَقُصُّ على بني إسرائيل أكثر الذي هم فيه يختلفون وإنه لهُدى ورحمةٌ للمؤمنين) فأهل الكتاب لو كانوا يعقلون لأخذوا تاريخهم وأخبار سابقيهم من هذا الكتاب الذي (لا يأتيه الباطلُ من بين يديه ولا من خلفه) لكن كيف يفعل ذلك أهل الكتاب وكثير من المؤمنين قد زهدوا في كتابهم لما لحق به تحريف وتبديل.
ثم إن هذا القرآن العظيم حوى كثيراً من علوم الدنيا تصريحاً أو تلميحاً، أو إشارةً أو إيماءً. ولا يزال البحث العلمي في علوم الإنسان والحيوان ، والنبات والثمار، والأرض والبحار، والفضاء والأفلاك، والظواهر الكونية والأرضية يتوصل إلى معلومات حديثة مهمة ، ذكرها القرآن قبل قرون طويلة ، مما جعل كثيراً من الباحثين الكفار يؤمنون ويهتدون والأمثلة كثيرة ، فمنهم على سبيل المثال لا الحصر موريس بوكاي وزغريد هونكة وروجيه جارودي وغيرهم.
ويتميز هذا القرآن بميزة تظهر لكل أحد وهي سهولة لفظه ووضوحُ معناه (ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدّكر)، قال ابن كثير ـ رحمه الله:" أي سهلنا لفظه ، ويسرنا معناه لمن أراد ؛ ليتذكر الناس" وقال مجاهد : هَوَّنَّا قراءته – يعنى جعلناه هيّناً وسهلاً ، وقال السُدّي: يسرنا تلاوته على الألسن" وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما قوله " لولا أن الله يسره على لسان الآدميين ما استطاع أحد من الخلق أن يتكلم بكلام الله عز وجل:(فإنما يسّرناه بلسانك لتُبشّرَ به المتقين وتنذر به قومْاً لُّدّاً) وهذا الآية من أعظم الآيات ، ودليل من أوضح الأدلة على عظمة هذا القرآن ؛ فحفظه وإتقانه أيسر وأهون من سائر الكلام . وقراءته ميسرة حتى إن بعض الأعاجم ومن لا يعرفون العربية ليستطيع قراءة القرآن بسهولة ويسر وكثير منهم لا يعرفون من العربية إلا القرآن بل إن كثيراً من الأميين لا يستطيع أن يقرأ غير القرآن – وقد رأيت ذلك بنفسي وعايشت بعضاً من المواقف التي تؤكد هذه الحقيقة .
وأما المعنى فتجد أن الواحد من الناس يأخذ منه حسب فهمه وإدراكه ، فالعامي يفهمه إجمالاً ، وطالب العلم يأخذ منه على قدر علمه ، والعالم الكبير المتبحر في العلوم يغوص في معانيه التي لا تنتهي ، حتى يستخرج منه علوماً وفوائد ربما أمضى عمره في سورة أو آية واحدة ولم ينته من فوائدها ومعانيها ، قيل : إن الشيخ أبا إسماعيل الهروي رحمه الله ألقى في تفسير قوله تعالى:(إن الذين سبقت لهم منّا الحسنى) ثلاثمئة وستين درساً، وتصانيف العلماء في سورة أو آية واحدة كثيرة ومشهورة، والقرآن يُفَسرُ ويُشرحُ ويُوضح وتستخرجُ أسراره وتُبينُ معانيه منذ نزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم وحتى الآن ، وتفسيرات العلماء والباحثين تمتلئ بها مكتبات العالم وما زالت المطابع تُخرجُ لنا كل يوم العديد من كتب التفسير ؛ وما ذلك إلا لغزارة المعاني والعلوم التي حواها هذا الكتاب العظيم.
والمقصود الأعظم من إنزاله : فهم معانيه ، وتدبر آياته ، ثم العمل بما فيه (كتابٌ أنزلناهُ إليك مُباركٌ ليدّبّروُا آياتهِ وليتذكّرَ أولُوا الألباب) (ولقدْ صرفناه بينهم ليذّكّروا) (أفلا يتدبّرون القرآنَ ولو كان من عند غيرِ الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً) (أفلا يتدبّرون القرآن أم ْ على قُلُوبٍ أقفالها) وكلما كثُر تدبرالعبد لآياته عظم انتفاعه به ، وزاد خشوعه وإيمانه.
ولذا كان النبي (صلى الله عليه وسلم) أخشع الناس وأخشاهم وأتقاهم لأنه أكثرهم تدبراً لكلام الله تعالى . قال ابن مسعود رضي الله عنه : قال لي رسول الله (صلى الله عليه وسلم): "اقرأ عليّ القرآن " فقلت: يا رسول الله ، أقرأُ عليك وعليك أُنزل قال:"إني أشتهي أن أسمعه من غيري " ، قال : فقرأت النساء ، حتى إذا بلغت (حتى إذا جئنا من كل أُمةٍ بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيداً ) رفعت رأسي ، أو غمزني رجل إلى جنبي فرفعت رأسي ، فرأيت دموعهُ صلى الله عليه وسلم تسيل على خده".
ولا شك في أن تدبر القرآن والانتفاع به يقود إلى الزهد في الدنيا ، والرغبة في الآخرة، يقول الحسن ـ رحمه الله :" يا ابن آدم ، والله إن قرأت القرآن ثم آمنت به ليطولن في الدنيا حُزنك، وليشتدن في الدنيا خوفك ، وليكثرن في الدنيا بكاؤك " .. كم اهتدى بهذا القرآن من أناس كانوا من الأشقياء ؟ نقلهم القرآن من الشقاء إلى السعادة ، ومن الضلال إلى الهدى ، ومن النار إلى الجنة . .. ومنهم أقوام عادوا الرسول صلوات الله عليه وناصبوه وأصحابه العداء وأعلنوا حربه ؛ سمعوا هذا القرآن فما لبثوا إلا يسيراً حتى دخلوا في دين افواجاً ، والأمثلة والأخبار في كتب السير والتاريخ أكثر من أن تُحصى .. ولعل من عجائب ما يُذكر في هذا الشأن : قصة توبة الإمام القدوة الفضيل بن عياض ـ رحمه الله تعالى ـ حيث كان لصاً وقاطع طريق مشهور يخاف منه الناس ويرهبون لمجرد سماع اسمه ، وكان سبب توبته ، أنه بينما كان يتسلق جداراً من اجل أن يسرق بيتاً إذ سمع تالياً يتلو القرآن ويقرأ قوله تعالى:(ألمْ يأْنِ للذين آمنوا أن تخشع قُلُوبهم لذكر الله وما نزل من الحق) فلما سمعها ، قال: بلى يا رب قد آن ، فرجع ، ثم ذهب لخرابة لينام فيها ، فإذا بها بعض الناس يختبأون ويتحدثون بصوت خفيض ويقولون لبعضهم: لا نرحل الليلة من هنا حتى نصبح – فإنّا نخاف فُضيّل بن عياض أن يقطع علينا الطريق .. يقول الفضيل: ففكرت فيما يقولون ، وقلت : أنا أسعى بالليل في المعاصي ، وقوم من المسلمين ها هنا يخافونني ويخشون من بطشي ، وما أرى الله ساقني إلى هذا المكان إلا لأرتدع ، اللهم أني تبت إليك ، وجعلت توبتي مجاورة البيت الحرام " وقد كان .. فرحم الله الفُضيل بن عياض ، قادته آية من كتاب الله إلى طريق الرشاد فكان من العبّاد الصالحين ، ومن العلماء العاملين ، فهل نتأثر بالقرآن ونحن نقرؤه ونسمعه بكثرةٍ في هذه الأيام المباركة . أعوذ بالله من الشيطان الرجيم (قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ).
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ، ونوّرَنَا بأنواره وهدانا بهدايته ، ووفقنا لمراضيه وجنبنا مناهيه ، وجعل مستقبل حالنا خير من ماضيه .. وآخر دعوانا أن الحمدلله رب العالمين .

أحمد محمد خشبة
[email protected]