{إن هـذا الـقـرآن يهـدي للتي هـي أقـوم}
الحمد لله الـذي أنـزل عـلى عـبـده الـكـتاب ولـم يـجـعـل له عـوجـا ، والصلاة والسلام عـلى رسـول الله صلى الله عـليه وسـلم السـراج المـنـير وعـلى آله وأصاحـبه الـذين أكـرمهـم الله بصـحـبة رسـوله الطـيبين الطـاهـرين ، وعـلى التابعـين لهـم بإحـسان إلى يـوم الـدين وبـعـد :
فإن الله أنـزل الـقـرآن الكـريم هـدى للمـتقـين ، وقال في شأنه : { إن هـذا الـقـرآن يهـدي للتي هـي أقـوم } سـورة الإسـراء 9، وجـاء في سـورة الحجـرات مـن المـواقـف الإيمـانية والأخـلاقـية ، والعـلاقـة الأخـوية الإيـمانية مـا نحـن بحـاجـة ماسـة إليه لتـنظـيـم حـياتنا الفانـية ، لنـتزود منها إلى الحـياة الباقـية .
وقـد جـاء في ظـلال القـرآن للشهيـد سـيـد قـطـب في مقـدمـة تفسير سـورة الحجـرات قـوله : ( هـذه السـورة التي لا تتجـاوز ثـماني عـشـرة آية ، وهي ســورة جـليـلة ضخـمة تتضـمن حـقائـق كـبـيرة مـن حـقائـق العـقـيـدة والشـريعة ، ومـن حـقائـق الـوجـود والإنسانية ، حـقائـق تـفـتـح للقـلب آفـاقـا عـالية وآمادا بعـــيـدة ، وتـثـير في النفـس الـذهـن وخـواطـر عـمـيـقـة ، ومـعـاني كـبيرة ، وتشـمـل مـن مناهـج التكـوين والـتـنـظـيـم ، وقـواعـد التـربية والتهـذيـب ، ومـبادي ء التشـريع والتـوجـيه ، ما يتجـاوز حجـمها وعــدد آياتها مـئات المـرات ، وهـي تـبرز أمام النـظـر أمـرين عـظيـمـين للـتـدبـر والـتـفـكـير ، وأول ما يـبرز مـن مـطالعـة السـورة ، هـو أنها تـكاد تسـتـقــل بـكل ما يحـتـاجـه البـشــر مـن تـوجـيهات إلى تكـوين عـالم رفـيع كـريـم نظـيـف سـلـيـم ).
ثـم يـقـول : ( وهي متـضـمـنة للـقـواعـد والأصـول والمناهـج التي يقـوم عـليها هـذا العـالم ، والتي تـكـفـل قـيامه أولا، وصـيانته آخـرا ، ويمـكـن أن يعــتـمـد عـلى هـذه السـورة لإنشـاء مـثـل هـذا العـالـم ، ثـم لصـيانته وحـفـظـه ، حـتى يطــول أمـد وجـوده ، عـالم يصـدر عـن الله ويتجـه إلى الله ، ويلـيـق أن ينتسب إلى الله ، عـالم نقـي القـلـب نـظـيـف المشاعـر عـف اللسان، وقـبـل ذلك عـف السـيرة والسريـرة ، عـالم له أدب مـع الله ، وأدب مـع رسـوله وأدب مـع نفـسه ، وأدب مـع غــيره، أدب في هـواجـس ضـمـيره ، وفي حـركة جـوارحـه وفي الـوقـت ذاته له شـرائعـه المنظـمة لأوضاعـه ، وله نظـمه التي تـكـفـل صـيانته ، وهي شـرائـع ونـظـم تقـوم عـلى ذلك الأدب ، وتـنـبـثـق مـنـه وتـتـفـق معـه فـيـتـوافـى باطـن هـذا العـالم وظـاهـره ، وتتـلاشى شـرائعـه ومشاعـره ، وتـتـوازن دوافـعـه وزواجـره ، وتـتـناسـق أحاسيسه وخـطـاه وهـو يتجـه ويتحـرك إلى الله .
ومـن ثـم لا يمـكـن قـيام هـذا العـالم الـرفــيـع الكـريـم النظـيـف السـلـيـم ، وصـيانته لمجـرد أدب الضـمـير، ونظـافة الشـعــور، ولا يـوكل كـذلك لمجـرد التشـريـع والتنـظـيـم ، بـل يلتـقي هـذا بـذلك في انسـجـام وتناسـق كـذلك لا يـوكل لشـعــور الفــرد وجهـده ، كما لا يـترك لـنـظـر الــدولة وإجـراءاتها ، بـل يـلـتـقـي فـيها الأفـراد بالـدولة والـدولة بالأفـراد ، وتـتـلاقى واجـبـاتهـما ونشاطـهـما في تعـاون واتـسـاق هـو عـالـم له أدب مـع الله .
هـو عـالـم له أدب مـع الله ومع رسـوله صلى الله عـليه وسـلم ، ويـتـمـثـل هـذا الأدب في إدراك حــدود العـبـد مـع الـرب والـرسـول، الـذي يبـلـغ عـن الـرب وهـذا ما تــدل عـليه الآيات الأولى مـن السـورة : { يا أيها الـذين آمـنوا لا تقـدمـوا بـين يـدي الله ورسـوله واتقـوا الله ، إن الله سـميع عـليـم }فـلا يسبـق العـبـد المـؤمـن إلهـه في نهي أو أمـر ، ولا يقـترح عـليه في قـضاء أو حـكـم ، ولا يتجـاوز ما يأمـر به وما يـنهى عـنه ، ويجـعــل لنفـسه إرادة أو رأيا مـع خـالـقـه ، تـقــوى مـنه وخـشـية وحـياء مـنه وأدبا ، كـما سـيأتـيـنا بسـطـه وشـرحـه عـنـدما نـشـرع في تفـسير قـوله تعالى : { لا تقـدمـوا } ، فـكل شـيء مـن الله لـيس لـنـا أن نتـقـدم بعـمـل أو قـول أول معـتـقـد ، إلا أن يـكـون صـادرا عـن الله تعالى عـلى لـسـان رسـوله صلى الله عـليه وسـلم .
وللـرسـول أدب خاص في خـطـابه ، يجـسـده قــوله تعالى : { يا أيها الـذين آمنـوا لا تـرفـعـوا أصـواتـكـم فـوق صوت الـنبي ، ولا تجهـروا بالـقـول كجـهـر بعـضكـم لبعـض أن تحـبـط أعـمالـكـم وأنـتـم لا تـشعـرون ، إن الـذين يغـضـون أصـواتهـم عـنـد رسـول الله أولـئـك الـذين امـتحـن الله قـلـوبـهـم للتـقـوى، لهـم معـفـرة وأجـر عـظـيـم أن الـذين يـنـادونـك مـن وراء الحجـرات أكـثرهـم لا يعــقـلـون ، ولـو أنهـم صـبروا حـتى تخـرج إليهـم لـكان خـيرا لـهـم والله غـفـور رحـيم }.
وهـو عـالـم لـه مـنـهـجـه في التـثـبـت مـن الأقــوال والأفـعـال، والإسـتئثا ق مـن مصـدرها قـبـل الحـكـم عـليها، ويسـتـنـد هـذا المنهـج إلى تقـوى الله وإلى الـرجـوع بالأمـر إلى رسـوله ، في غــير ما تـقـدم بين يــديـه ، ولا اقــتراح لـمـا لـم يطـلـبه ولـم يأمـر به، قال تعـالى : { يا أيها الــذين آمنـوا إن جـاءكـم فاسـق بنبيء فـتبيـنـوا أن تصـيبـوا قـوما بجـهـالة فـتصبحـوا عـلى ما فعـلـتـم نادمـين ، وأعـلـمـوا أن فــيـكـم رسـول الله لـو يطـيعـكـم في كــثير مـن الأمـر لـعـنـتـم، ولـكـن الله حـبـب إلـيـكـم الإيمان وزينـه في قـلـوبـكـم وكـره إلـيكـم الـكـفــر والـفـسـوق والعـصـيـان أولـئـك هـم الـراشـدون فـضـلا مـن الله ونعـمة والله عـليم حـكـيـم } .
فالأمر في الآية بالتثـبت والتبين ، وهـذا يتـناول الأحـكام الخاصة والعامة ، وقـالـوا في المثـل : ( العـجـلة مـن الشـيطان )، فإذا تعـجـل الإنسـان في إصـدار حـكـم عـلى أمـر مـا قـبـل أن يبحـث عـن حـقـيقـة ما سـمـع ، قـد يتـصـرف تصـرفا لا عـقــلانيا ، ثـم يـبـين أن نقـل إليه ليـس له حـقــيقـة .
قال الله تعالى : { يا أيها الـذين آمنـوا لا يسخـر قـوم مـن قـوم عـسى أني يكـونوا خـيرا منهم ولا نسـاء مـن نسـاء عـسى أن يكـن خـيرا منهـن ن ولا تلمـزوا أنفـسكـم ولا تنابـزوا بالألـقـاب بـئس الاسـم الفـسوق بـعـد الإيـمان ومـن لم يتـب فأولـئـك هـم الظـالمـون } سـورة الحجـرات 11 .
نـلاحـظ هـذا أن القـرآن الكـريم وجـه النهـي إلى القـوم مـرة ، وإلى النساء مـرة ، وخـص كـلا منهـما بنهي ، ذلك لأن كلمة قـوم لا تقال إلا للـرجـال ، لأنهـم هـم الـذين يـقـومـون بشـؤون الأسـرة ، يـوفـرون كل ما يـلـزم لمـقـومات حـياة الأسـرة ، بـما فـيهـم المـرأة كأم وزوجـة وابنـة ، أما المـرأة فـليس لهـا قـيام إلا عـلى بيتها ، لأنهـا مكـفـولة مـن جـميـع ما تحـتاجــه ، لـذلك الله خـص بكلمة القـوم الـرجـال فـخـاطـبهـم بهـا ، وخـاطـب المـرأة بـكلمة النساء التي تفـيـد الجـمـع .
يـقـول الشـاعـر :
وما أدري ولسـت أخـال أدري أقــوم آل حـصن أم نـساء

إذن : القـوم تقال للـرجـال فـقـط وليس للنساء ، وقال الله تعالى : { الـرجـال قـوامـون عـلى النساء }سـورة النساء 34 ، والبعـض يفهـم مـن كلمة : { قـوامـون }أنها تـدل عـلى القـهـر والتسلـط وللضـرب ، وإنما المـراد الـرجـال قـوامـون عـلى النساء، يعـني يـقـومـون عـلى رعـايتهـن وتـدبـير أمـورهـن ، ولـذلك يـقال ( المـرأة ربت البـيـت ) فـكان الـرجـل هـو الخـادم الـراعي لها ، ويـقـول الناس : ( فـلان قـائـم بهـذا الأمـر ، يـعـني يتـولى العـمـل الشـاق
وقـد خـاطـب الله النبي آدم عـليه السـلام بقـوله : { فـقـلنا يا آدم إن هـذا عـدو لـك وتزوجـك فـلا يخـرجـنكـما مـن الجـنة فـتـشـقى } سورة طـه 117، هـذا خـطاب لآدم وحـواء ، فـقال : لـتـشـقى أنـت يا آدم وحــدك ، ولم يـقـل ( فـتشـقـيا ) ، لأن مهـمة الـكـدح والشـقاء وتحـمـل مسـؤولية الأسـرة ، تكـون عـلى الرجـل وحـده ، أما المـرأة فهي للبـيت ولهـا دور عـظـيم وهـام يمـلأ كل لحـظـة في حياتها ، ولـكـن مـاذا نفـعــل وهـن يـردن أن يشـقين مـع الـرجـال .
والنهـي عـن السخـرية في الآيـة له سـبب في الـرجـال ، وله سـبب في النساء ، فـيروى أن ثـابت بن قـيس بين شـماس الخـزرجي الأنـصاري ، دخـل عـلى مجـلس رسـول الله صلى الله عـليه وسـلم فـوجـد الصـف الأول قـد اكـتـمـل ، وأراد أن يجـلـس في الصـف الأول ، لأنه كان ثـقـيـل السـمع فجـاء إلى رجـل مـن ضـعـفـاء القـوم فـقال له تـزحـزح فـلم يتـزحـزح ، فـقال لـه مـن أنـت ؟ ، ألسـت فـلان ابن فـلانـة وكانت سـيئة الخـلـق بين الناس ، وسـمعـه الـرسـول صلى الله عـليه وسـلم ، فـقال مـن قال ابن فــلانـة ؟، قال ثابـت أنا يا رسـول الله ، فـقال رسـول الله أنـظـر في مجـلسـنا فـنـظـر ثابت فـيه ، فـقال له : ما ذا رأيـت؟ قـال : رأيـت الأسـود والأبيـض والأحـمـر ، الغـني والفـقـير قال رسـول الله يا ثـابـت : ( إنـك لا تفـضـلهـم إلا بالـتـقـوى ) ، فـنـزلـت الآيـة في ثـابت بن قـيس الأنصـاري الخـزرجي .
وللحـديث بقـية إن شـاء الله نـوا صله في حـلقة قـادمة ، وإلى أن نلتقي اسـتـودعـكم الله والسـلام عـليكم ورحمة الله وبركاته.

ناصر محمد الزيدي
كاتب عماني