[author image="https://alwatan.com/v2/v2/wp-content/themes/watan/images/opinion/ahmedalkadedy.jpg" alt="" class="avatar photo" height="60" width="60"]د.أحمد القديدي[/author]
”يخطئ من يعتقد أن الشعب الأميركي عدو للعرب بشكل نهائي، بل يتفق كل الأميركيين من أصول عربية أو مسلمة أن الشعب مغرر به، ويخضع جزء منه للتلاعب بالعقول الذي تمارسه آلة إعلامية ضخمة وشريرة. وعلينا أن نفك شفرات القوة الأميركية ونتعامل مع الديناصور الأميركي بمعطيات حقيقية أي أننا أمام عملاق عسكري وجيواستراتيجي لديه رؤوس عديدة لا رأس واحد...”

يخطئ من يخلط بين الإدارة الأميركية الزائلة والشعب الأميركي الدائم، ولا بد أن نفرق بين هذه وذاك، ونسن سياسة عربية إسلامية ذكية متوازنة حكيمة حتى لا نخسر تلك القوة الشعبية الأميركية التي سبق أن ساندت حقوق العرب في تحرير بلدانها من الاستعمار الفرنسي والبريطاني، وسبق أن أجبرت العدوان الثلاثي على مصر على إجلاء الأرض المصرية بعد أن قام عبدالناصر بتأميم قناة السويس سنة 1956 فتحالفت فرنسا وبريطانيا وإسرائيل على تلقين عبدالناصر درسا قاسيا (حسب ما رواه لي شخصيا مهندس العدوان وزير خارجية فرنسا آنذاك كريستيان بينو). يخطئ من يعتقد أن الشعب الأميركي عدو للعرب بشكل نهائي، بل يتفق كل الأميركيين من أصول عربية أو مسلمة أن الشعب مغرر به، ويخضع جزء منه للتلاعب بالعقول الذي تمارسه آلة إعلامية ضخمة وشريرة. وعلينا أن نفك شفرات القوة الأميركية ونتعامل مع الديناصور الأميركي بمعطيات حقيقية أي أننا أمام عملاق عسكري وجيواستراتيجي لديه رؤوس عديدة لا رأس واحد، وندرك أن ما يحرك هذه الرؤوس جميعا هو خدمة المصالح الأميركية في العالم، لكنها لا تتفق دائما على المناهج والأليات، فالرئيس هو الذي يمنحه الشعب ثقته المؤقتة لتأسيس الإدارة التنفيذية (لمدة أربع سنوات قابلة للتجديد مرة واحدة) وتبقى السلطة التشريعية بين أيدي الكونجرس الذي لا يمكن لأي قرار رئاسي مهم أن يمر دون موافقته وفي أغلب الأحيان تكون الأغلبية فيه معارضة لحزب الرئيس من أجل توازن أكثر عدلا ثم إن للرأي العام الأميركي قوى عديدة ذات تأثير على توجيه السياسات منها القوة الإعلامية الفاعلة بأذرعها الناجعة (وهي التي غزت العالم بإنترنت وهوليود والتكنولوجيات) ومنها قوة اللوبيات الكبرى المالية والعقائدية، ومنها التأثير الكبير للنقابات وأسلاك المهن الحرة مثل هيئات المحامين والأطباء والجامعات المتقدمة. ولو حللنا تداعيات القرار الخطير للرئيس ترامب في شأن بيت المقدس لوجدنا أن اثنين فقط من اللوبيات دعمهما وهما لوبي ما يسمى (الأيباك) أي تجمع الجمعيات اليهودية في الولايات المتحدة واللوبي يعقد مؤتمره السنوي بحضور المسؤولين الأميركان والطامحين لكسب أصوات اليهود والمتعاطفين معهم واللوبي الثاني الذي رحب بالقرار الرئاسي هو تجمع الكنائس الأنجليكانية (وهو يضم حوالي 45 مليون مواطن أميركي يجمع بينهم الاعتقاد الخرافي بأن لأميركا رسالة روحية وعسكرية لحماية إسرائيل، وأن الإسلام دين دخيل طارئ جاء لتقويض ما يدعون أنه الدين المسييهودي جويشكريستيان!) وما عدا هذين الداعمين لا نجد لدى القوى الحية المؤثرة الأخرى تأييدا للقرار؛ فالولايات المتحدة هي التي أعطت للعالم كتابا عمالقة أسسوا للقيم الأخلاقية أمثال جون شتاينبك وارنست همنجواي ووليم فولكنر، والمجتمع الأميركي هو الذي حصد مئات جوائز نوبل في الفيزياء والكيمياء والطب والأدب والسلام منذ تأسيس الجائزة سنة 1907؛ أي إنه المجتمع الذي خدم الإنسانية في دولة رسمية دمرت غالبا الإنسانية بحروب فيتنام وكوريا والانحياز للاغتصاب الإسرائيلي لأرض فلسطين. نعم هو التناقض الصارخ بين أميركا الأمة وأميركا الدولة، وعلينا نحن في هذه المحنة العسيرة أن نخاطب ضمائر رجال أمثال ناحوم شومسكي وهو اليهودي الذي ناصر الحق الفلسطيني وكان صوته مدويا في المحافل العلمية الدولية، وأن نكسب رجال دولة يعتبرون ترامب فاشيا وآخرهم الرئيس السابق باراك أوباما الذي حذر من هشاشة الديمقراطية في بلاده ومخاطر صعود النازية، مستشهدا بتجربة ألمانيا في عهد أدولف هتلر، كما نقلت وكالة روسيا اليوم. وقال أوباما خلال مشاركته في اجتماع لنادي شيكاغو الاقتصادي يوم الخميس: "الخطر ينمو.. ويجب أن نعتني بحديقة الديمقراطية هذه، وإلا فقد تنهار الأوضاع بسرعة"، حسبما نقلت عنه صحيفة (كرينس شيكاغو بيزنس) وتابع: "هذا ما حدث في ألمانيا في الثلاثينيات من القرن الماضي، التي على الرغم من الديمقراطية الموجودة فيها والإنجازات الثقافية والعلمية الكبيرة خضعت لسيطرة هتلر.. وشنت حربا عالمية ثانية هلك في أتونها 60 مليون نسمة.. عليكم أن تنتبهوا. ولم يذكر أوباما أحدا بالاسم، لكن تصريحاته تضمنت إشارة ضمنية إلى الرئيس الحالي دونالد ترامب، خاصة وأن أوباما شدد على أهمية حرية الصحافة والتعبير في الحفاظ على النظام الديمقراطي في المراحل الصعبة من تاريخ أميركا، فيما اشتهر ترامب بعدائه الشديد لمعظم وسائل الإعلام الأميركية التي يسميها بـالأخبار المزيفة! إننا نحن العرب نقف اليوم في مفترق طرقات متعرجة وعسيرة، ولعل من أوكد الفرائض الغائبة هو ما لم يحدث أي أن تقرر القمم العربية الإسلامية مشروعا ذكيا لفك الآلية الأميركية والتخطيط لمخاطبة الرأي العام الأميركي ومناهج الدفاع عن حقوقنا، ولدينا من الخبراء ومن مراكز التفكير الاستراتيجي ما يجعلنا نغتنم تنوع وقوة الأمة الأميركية دون التخلي عن آليات المقاومة الأخرى والتي تؤكد للعالم أننا متمسكون بالحق.