هل قرأت هذا الخبر: اختتمت بالعاصمة المصرية القاهرة فعاليات المؤتمر العربي الخامس للقصة الشاعرة بمشاركة مبدعين في هذا المجال. وخلال جلسات المؤتمر دارت نقاشات عديدة حول تأصيل القصة الشاعرة ومدى انتشارها في الأدب العربي القديم، إضافة إلى تناول عدد من الأعمال في هذا الفن الإبداعي. وأكد رئيس المؤتمر الشاعر السيد رشاد أن تجربة القصة الشاعرة تمضي بثبات في حفر نهرها الإبداعي الخاص، وتستحق الاحتفاء بها وبرائدها محمد الشحات ورفاقه من الأدباء المؤسسين.
ثمانية سطور أو دون ذلك أشعلت في الرأس عشرات الأسئلة، لكن السؤال المحوري: هل يوجد لدينا جنس أدبي يطلق عليه "القصة الشاعرة" نظمت من أجله خمسة مؤتمرات ؟
الخبر رافقته صورة لمنصة مزدحمة بالمتحدثين، أعرف ثلاثة منهم، الصديق الدكتور حسام عقل أستاذ البلاغة والنقد الأدبي بجامعة عين شمس، وقد شرفت مؤخرا باشتراكه بدراسة مهمة في ندوة حول روايتي ما لم تقله النساء بنقابة الصحفيين، والشاعرة فاطمة الزهراء التي أيضا شرفت منذ عدة سنوات بإدارتها ندوة بمكتبة مصر بمدينة المنصورة حول روايتي "هذيان على قبرها" التي تدور أحداثها ما بين قريتي في ريف محافظة الدقهلية ومدينة مسقط.
لكن ما يجعلني أبدي اهتماما أن ناقدا مثل الدكتور حسام عقل يشارك في المؤتمر، وهذا ما دفعني للبحث عن أجوبة لأسئلة أشعلها الخبر، ماذا تعني القصة الشاعرة ؟
إذا للأمر علاقة وطيدة بمسألة تداخل وتشابك الأجناس الأدبية، لكن هل هذا التداخل يؤدي إلى انبثاق أجناس جديدة ؟
المتحمسون للقصة الشاعرة يرون أنها جنس في حاجة إلى اهتمام النقاد، بل وينسبون ريادته للشاعر محمد الشحات، وينسبون منشأه إلى مصر.
ولا أظن أن من السهل الاستجابة لما يقولون، فالقصة الشاعرة موجودة منذ وجد الشعر، فإن كان ثمة منشأ جغرافي فالجزيرة العربية، وهذا ما أكده الناقد الدكتور حسام عقل خلال جلسات المؤتمر حين قال: إن محاولة المزج بين القصة والشعر والطموح إلى وجود نوع أدبي يحتضن كل الأنواع الأدبية المعروفة أمر مؤصل وموجود في التراث العربي، ونوه "عقل" إلى أنه وقف على نصوص قديمة تدل على ذلك.
وما قيل في هذا المؤتمر يدفعني إلى التساؤل: أهذا الذي يتحدثون عنه هو ذاته ما أسماه الكاتب الكبير إدوارد خراط بالكتابة عبر النوعية، في كتابه الذي اتخذ من ذات العبارة عنوانا له ؟
وهل هي روح المغامرة وراء اندفاع المبدع لممارسة تقنية التلقيح والتهجين بين جنس أدبي وآخر؟ لكنني لم أكن أبيت النية للخوض في هذه المغامرة حين كتبت روايتي "ما لم تقله النساء"، بل لم يكن لدي علم بأن ما فعلته كان عملية انتفاع بتقنيات جنس أدبي آخر في روايتي، حتى نبهتني الناقدة الدكتورة أماني فؤاد أستاذة البلاغة في أكاديمية الفنون المصرية عبر دراستها المعنونة بـ"ما يجب مواجهته في ما لم تقله النساء"، وهو تنبيه ينم عن قراءة واعية وعميقة للنص، وهذه عادتها مع كل النصوص التي تتصدى لها بالنقد، تقول الناقدة في دراستها: إن مؤلف الرواية لجأ في هذا العمل إلى هيكلة سردية شبيهة بعرض مسرحي له بطل وحيد، ويسمى بمسرح "المونو دراما"، ويعد فنا للبوح، مونولوج طويل يجريه الفرد مع ذاته؛ نتيجة للملل والحيرة، فن الجنون والقلق والتناقضات، وقيل إنه فن نسائي اعتقادا علي أنه يعتمد على الثرثرة والحكي!
ويعتمد هذا الشكل السردي ـ تستطرد الناقدة ـ على طاقات الممثل وقدراته على تقمص شخوصه، التي تهب من ثباتها، وتفرغ لتصوير أقنعتها وتجسيدها حالة صراعها، وجوه تتعايش بداخل الشخصية في حالة من التجاور، فيتم سرد العمل من خلال أنا الساردة، صوت الدكتورة زينب التي تكتب رسالة طويلة إلى أستاذها ومشرفها وحبيبها الدكتور سامي الجبالي، تقول وهي تدون فصولها أنها ربما ترسلها أو لا، نوع من البوح تقص عليه معاناتها مع مجتمعها، وزوجها، ومعه هو شخصيا .
إذا هذا هو تداخل الأجناس أو تلاقحها، أيا كانت التسمية، فما قصدت هذا، وحتى قبل أن أجاور الناقدة على منصة نادي القصة القاهري، ما كان لدي علم بأن الرواية التي كتبتها منذ خمس سنوات وصدرت في مطلع هذا العام تنطوي على هذا التضفير ما بين فني الرواية والمسرحية، أو تنتمي إلى هذا الذي أسماه البعض بـ" المسرواية" ، وأطلق عليه الكاتب إدوارد خراط "الأنواع الأدبية العابرة" ، فما هي الأسباب التي تتكئ عليها تلك العمليات التخليقية الرائعة لأجناس أدبية جديدة عبر التهجين بين الأجناس التقليدية ؟
ثمة أكثر من تفسير، لكن ما يبدو جديرا بالتأمل هذا الذي يقوله الناقد الألماني إيريك كوهلر وتعرض له الكاتب الدكتور صلاح السروي في مقالته "الأنواع الأدبية العابرة للنوع وقانون تطور النوع الأدبى" والمنشورة بموقع الحوار المتمدن بتاريخ 29 أبريل 2009 حيث يرى كوهلر في دراسة له أن أى جنس من الأجناس يحرض القارئ على تبني وجهة نظر ورؤية للواقع تتمشى مع مصالح جماعة معينة، فالتحولات الاجتماعية يمكن أن تؤثر بقوة في نظام الأجناس، حيث يمكن لأشكال هجينة مثل "التراجيكوميديا" أن تظهر في فترة انتقالية معينة، بما يتيح الفرصة لإنقاذ التوازن داخل نظام نوعي مهدد من قبل التقلبات الاجتماعية، أى ما يمكن تسميته ـ على حد تعبير السروي ـ بالحراك الاجتماعي العنيف، أو الانقلاب في النظام المؤسساتي للمجتمع. ولأن هذا الحراك لا يكون نهائيا, فلابد أن يستقر على نحو ما، مكونا بنية مجتمعية واضحة الملامح، فإنه لذلك يكون انتقاليا في كل الأحوال. وهذه الانتقالية، أى المرحلة الواقعة بين النظام القديم الذي كان مستقرا والنظام الجديد الآخذ في الاستقرار، هى المرحلة التي يمكن لها أن تشهد ظهور تلك الأشكال العابرة للنوع، والأمر على هذا النحو يبدو بديهيا، فإذا كان النظام المجتمعي يفرز أنواعه أو أجناسه. فإنه في المرحلة الواقعة بين نظامين، أحدهما بائد والآخر في طور التشكل، يشهد زواجا أو اندماجا بين نوعين، غير أن هذين النوعين لا ينبغي لهما بالضرورة أن يكونا معبرين، كلا على حدة، عن كلا النظامين، وإنما الاندماج هنا يتم مكونا بنية جديدة تختلف بالقطع عن حاصل جمع البنيتين القديمتين، ويتم بذلك انقاذ التوازن داخل النوع كما يقول كوهلر، وهل عملية التهجين التي تمت في رواية "ما لم تقله النساء" ما بين تقنيات الحكي الروائي والمسرح انعكاس لحالة من الحراك العنيف يشهدها المجتمع العربي فيما يتعلق بالعلاقة بين الذكورة والأنوثة؟ ، حيث تصارع المرأة العربية منذ أكثر من قرن لأن تتحرر من زنزانتها تحت ظفر الذكر، لتواجهه ـ ولا تقصيه ـ الإنسانة الفاعلة في كافة مناحي الحياة ، وبالتالي ينبغي أن تحظى بحقوقها، في كافة ميادين الحياة !
إذن هو التفاعل، بكل ما يعنيه من تأثير وتأثر بين المجتمع بتحولاته وحراكه، وبين الأدب بتخليق أجناس جديدة أو تلاقح ماهو سائد، ويقينا هو بالتفاعل الإيجابي الذي يخصب بمردوده المجدي كل أوجه الحياة.

محمد القصبي