[author image="https://alwatan.com/v2/v2/wp-content/themes/watan/images/opinion/mohamedaldaamy.jpg" alt="" class="avatar photo" height="60" width="60"]أ.د. محمد الدعمي[/author]
”في مجتمعاتنا المبتلاة بالنفاق الاجتماعي، لا يريد من يتخرج من "كلية التمريض" أن يعمل ممرضا لأنه يرى في هذا العمل ما يسيء إلى سمعته وإلى شهرته الاجتماعية. وهو أو هي يمكن أن تكون مبررة بذلك، لأن المجتمع ذاته يعد التمريض شكلا متدنيا من أشكال العمل المقبول اجتماعيا، كالتعليم والمحاسبة والإدارة والفنون.”

اتفقت جميع الشرائع، الوضعية والمنزلة، على أهمية العمل، درجة "التقديس" أحيانا، ذلك أن العمل حسب هذه التقاليد الدينية جمعاء لا يعني الحياة حسب، ذلك أنه عد شكلا من أشكال العبادات: فعندما يكدح المرء ويعمل من أجل خدمة ذاته والآخرين من أجل إطعام أفراد اسرته، يكون قد مارس نوعا من العبادة والخدمة في سبيل الله.
وإذا كان هذا هو الأساس الذي قدمته التقاليد الروحية المعروفة، فإن الذي جرى عبر حقب التاريخ إنما شكل تطورات متنوعة من منظور النوع الآدمي والاجتماعي نحو العمل والكدح: فظهرت أنواع وأشكال للعمل وللشغل، كما باشرت المجتمعات (تعسفا) أشكالا متنوعة من التمييز بين العاملين والشغيلة، تأسيسا على العمل والشغل وأنواعها، وهذه (والحق يقال) من براثن المنظور الرأسمالي، لبالغ الأسف: بدليل ظهور ما يسمى بالأعمال المدرة، والأعمال الهابطة الفوائد المالية. كما يتكلم البعض الآن عن الأعمال "العالية" أو الراقية، مقارنة بالأعمال "الوضيعة"، للأسف كذلك. والأخيرة هي ليست من أشكال الشكل غير المهمة أو غير الضرورية، بل على العكس من ذلك، لأننا لو فكرنا بأهميتها قليلا لوجدنا أن عجلة الحياة لا يمكن أن تدور بدون هذا الشكل من أشكال العمل التي لا يمكن أن تدوم الحياة بدونها. والحق، فإن عدم توافر خدمات ما يسمى بـ"العمل غير اللائق" أو الدوني قد أدى إلى الكثير من الخسائر والفرص المادية المهدورة، بدليل أن إحصائيات أسواق العمل عبر العالم العربي، ودول الخليج العربي بخاصة، إنما تؤشر هول الأرقام من الأموال المهدورة هباءً بسبب الاضطرار إلى استيراد هؤلاء الذين لا يجدون مانعا أو عيبا في ممارسة هذا النوع من العمل "الدوني" (كما يقال خطأ).
وهذه من مثالب المجتمعات المبتلاة بالنفاق الاجتماعي وسيادة الروح الاستهلاكية، كتلك التي يأنف شبانها من ممارسة الأعمال "غير المحترمة" المذكورة أعلاه، الأمر الذي يضطر السلطات وأصحاب الرساميل العالية إلى العاملين بها من أسواق العمل الرخيصة، في آسيا وإفريقيا، تلك الأسواق التي لا "يستنكف" العامل أو الكادح فيها من القيام بخدمات من نوع تنظيف الحمامات أو غسل الصحون أو حتى الطبخ والضيافة (بالرغم من أن العرب اشتهروا بكرم الضيافة مذ ذبح حاتم الطائي فرسه المفضلة لإطعام ضيف طارئ له).
بل إن المرء عندما يراجع ما لاث المفاهيم الاجتماعية ومنظوراتها نحو أشكال العمل والشغل، يجد نفسه مبهورا بالتدني السريع والمؤسف في طرائق النظر إلى العمل والكدح، الأمر الذي يزيد ويضاعف من نزف ثرواتنا القومية عبر الاضطرار إلى هؤلاء الذين يقومون بهذه الأعمال "المتواضعة"، درجة عد أية خدمة يقدمها الإنسان لأخيه الإنسان نوعا من الإقلال من شأنه أو من الاستهانة به.
في مجتمعاتنا المبتلاة بالنفاق الاجتماعي، لا يريد من يتخرج من "كلية التمريض" أن يعمل ممرضا لأنه يرى في هذا العمل ما يسيء إلى سمعته وإلى شهرته الاجتماعية. وهو أو هي يمكن أن تكون مبررة بذلك، لأن المجتمع ذاته يعد التمريض شكلا متدنيا من أشكال العمل المقبول اجتماعيا، كالتعليم والمحاسبة والإدارة والفنون. والأدهى من ذلك كله هو أن جميع الخريجين من جامعاتنا يأملون أن يحصلوا على أعمال "محترمة" أو "راقية"، كما يحلو لهم القول أحيانا: هم لا يريدون الارتقاء في سلم الوظائف درجة فدرجة كما عهدنا العمل في دوائر الدولة والشركات الخاصة كذلك. خريج الجامعة يريد أن يعين آمرا، لا يخالف له أمر، كما يفعل خريج الكلية العسكرية بين جنده في الجيش. وإذا لم يحصل هذا الخريج على لقب "مدير"، فإنه لا بد أن ينزعج، فيفعل كل ما من شأنه التخلص من عمله هذا، حتى يجد عملا ملائما لسمعته وسمعة عائلته!
في العالم الرأسمالي الغربي، تتفوق سوق العمل والكدح على أسواقنا كثيرا، لأنهم يقولون بأنه حتى ذلك العامل الذي حاك إكليل الشوك الذي وضع على رأس السيد المسيح (عليه السلام)، إنما يستحق الاحترام لأنه قد قام بعمل، بغض النظر عن وسائل استخدام منتجاته.
هذا هو ما يجعلنا نهدر أموال دولنا في استئجار العاملين في البناء والخدمات الذين نستقدمهم من دول جنوب شرق آسيا مثلا، درجة استئجار مئات (وربما آلاف) من الخدامات والمربيات اللائي نستأمنهن على أطفالنا الرضع دون تفكير كافٍ بما سيلقن هؤلاء الرضع الصغار!