[author image="https://alwatan.com/v2/v2/wp-content/themes/watan/images/opinion/khamis.jpg" alt="" class="avatar photo" height="60" width="60"]خميس التوبي[/author]
عندما يعتلي منصة السياسة صغارها وأقزامها فإن النتائج تكون كارثية، هذه الحقيقة اليوم بدت في أجلى صورها، حيث طغى على كل شيء الإيقاع الاستعماري الامبريالي والخياني الملفع بأثواب "الربيع العربي" المزعوم، بل وقضى تقريبًا على مظاهر التعايش، وجرف معه المبادئ والقيم والأخلاق النبيلة والفضائل، وأحل محلها جميع الأضداد والأنداد، فاستحالت مع ذلك المنطقة إلى غابة تتصارع فيها القوى الكبرى لا سيما الصاعدة منها التي تريد أن تحجز مكانًا لها في خريطة العالم الجديد عبر بوابة المنطقة، واحتلال أجزاء مما أطاحت به الامبريالية الاستعمارية الصهيو ـ أميركية عبر شرذمة من الخونة والعملاء وأقزام السياسة، والمرتزقة الذين أتت بهم مصادفات التاريخ، ومراهنات ذوي الامبريالية الاستعمارية التي جعلت منهم أحصنة سوداء لنجاح مراهناتهم.
للأسف، أقزام السياسة كثر ولا يزالون يتكاثرون، ويشبهون في قيادتهم لها كمن يقود جرافة أتت على كل شيء أخضره ويابسه، ما دفع قنَّاصي الفرص والانتهازيين إلى محاولة ملء الفراغ واللعب على التناقضات، وتقديم أنفسهم على أنهم المخلِّصون لشعوب المنطقة من ظلم الامبريالية الاستعمارية، ومحبو الخير لها. ففي خضم التحولات الخطيرة التي تعيشها المنطقة، وتسارع أحداثها وفق التحالفات الجديدة التي أفرزها ما سمي "الربيع العربي"، حيث فرضت درجة التنسيق العالية بينها بَصْمتها القوية حيال حرث المنطقة وحرف بوصلة شعوبها، ومحاولة أخذها إلى اتجاهات مضادة ومناقضة لحقائق التاريخ والجغرافيا، ومنطق الأشياء، تستقيم والجهد المبذول لشيطنة قوى ودمغها بكل الموبقات والشرور، وتصديرها على أنها الشر المستطير، وإحلالها محل القوى الشريرة المتربصة بالمنطقة وشعوبها وثرواتها وأمنها واستقرارها وتنميتها ورخائها.
وبينما نودع اليوم عامًا وندلف إلى عام جديد، فإن العام 2017 يحتفظ بخصوصيته، لجهة أنه يمكن اعتباره عام انكشاف الحقائق، وما وراء الكواليس وما تحت الطاولة، ليُبرِزَ إلى العلن طبيعة التحركات الاستعمارية والخفايا التي ظلت المنطقة طوال عقود من الخداع والتغييب، فلم يكن ما سمي "الربيع العربي" إلا مخاضًا لهذه الانكشافات، وتحديدًا لزاوية التصويب في الاتجاه المراد نحو تحقيق أهداف الهيمنة الصهيو ـ أميركية على المنطقة عبر تأمين بقاء خنجر كيان الاحتلال الإسرائيلي المسموم في خاصرة المنطقة.
ويمثل قرار الولايات المتحدة باعترافها بالقدس المحتلة عاصمة لحليفها الاستراتيجي في المنطقة، ألا وهو كيان الاحتلال الإسرائيلي، الانكشاف الأكبر للحقائق الذي سلط بدوره الأضواء على المرتكزات التي قادت إليه، سواء من حيث حجم التواطؤ والعمالة أو من حيث الدور الذي لعبته السياسة الأميركية في التعمية وممارسة أساليب الخداع على العرب والفلسطينيين، وإشعارهم بأنها القوة القادرة على تحقيق السلام، وإنهاء الصراع العربي ـ الإسرائيلي، في حين كانت الولايات المتحدة طوال العقود الخالية تدير ملف الصراع العربي ـ الإسرائيلي، وتستأثر به وحدها، وتتصدى لأي كان يحاول الاقتراب من الملف والتقريب بين الفرقاء الفلسطينيين والإسرائيليين، فكل مقارباتها السياسية ومؤتمراتها التي عقدتها تحت العنوان الكبير والفضفاض "محادثات السلام" لم تكن سوى عبث بالوقت وتدوير الفلسطينيين والعرب في حلقة مفرغة، حيث مقتضيات الخدعة الكبرى كانت تستدعي هذه المواربة وأساليب التحايل والتضليل تحت عنوان "محادثات السلام"، ولعل خطة خريطة الطريق التي أعلن عنها جورج بوش "الصغير" الرئيس الأسبق للولايات المتحدة التي أدارت إسطوانتها المشروخة طوال ما يزيد على خمس سنوات، لتأتي رسالة الضمانات من قبل بوش "الصغير" خاتمة وتتويجًا لمسرحية/ملهاة "خريطة الطريق"، ليستلم منه راية الخداع والتحايل والتضليل خلَفُه باراك أوباما بمسرحية/ملهاة "حل الدولتين" التي أخذ بعض الفلسطينيين والعرب يسبحون بحمدها صباح مساء.
لذلك يبدو أن الوقت قد حان في نظر المُخَطِّط الصهيو ـ أميركي لقطاف ما تم إنضاجه على النيران الهادئة للمسرحيات الهابطة "خريطة الطريق وحل الدولتين"، ومن قبلهما مسرحية "أوسلو"، وبالتالي ليس مستغربًا أن تنتهي بما يتداوله الإعلام بمختلف وسائله وهي "صفقة القرن" التي كان الاعتراف بالقدس المحتلة عاصمة لكيان الاحتلال الإسرائيلي ونقل السفارة الأميركية إليها بداية ولادتها وظهورها إلى العلن.
نعم، إن العام الذي ودعناه أمس قد سجل ذاته في سجل تاريخ المنطقة خاصة والعالم عامة بأنه من أميز الأعوام بأحداثه الحافلة التي يرجع الفضل فيها إلى بطلها الرئيس دونالد ترامب ليقود الولايات المتحدة نحو إنجاز الأهداف والمشاريع التي وضعتها مؤسساتها في هذه المرحلة بقيادة هذا الرئيس، وهي وضع اليد على ما تبقى من ثروات وأموال في المنطقة، وتفجير صراعات جديدة وإدارتها لتكون وسيلة إضافية لإحكام القبضة على هذه الثروات والأموال، والاستمرار في تمزيق دولها.
وسيسجل العام 2017 ذاته على أنه يؤسس لمرحلة جديدة تتبعثر فيها أحوال المنطقة، وتتعمق أزماتها وصراعاتها، فالعسكرة الأطلسية العثمانية في قلب الخليج ومن وراء ظهره، ودعم إرهاب مشتقات تنظيم القاعدة الإرهابي في سوريا وليبيا ومصر وغيرها، على خلفية الصراعات والنزاعات المفجرة عن سابق إصرار وترصد، كل هذا وذاك، أمور يتطلبها تمرير ما سمي بـ"صفقة القرن"، وحرف أنظار الجماهير العربية والإسلامية أو على الأقل تمرير موضوع القدس والتثبيت عند حدود القرار الأميركي؛ فهل سيكون العام الجديد 2018 هو عام استكمال منجزات "الحريق العربي"؟

خميس بن حبيب التوبي
[email protected]