{ ولا تلـمـزوا أنفـسكـم ولا تـنابـزوا بالألقـاب}
الحمد لله الـذي أنـزل عـلى عـبـده الـكتـاب ولـم يـجـعـل له عـوجـا ، والصلاة والسلام عـلى رسـول الله صلى الله عـليه وسـلم السـراج المـنـير وعـلى آله وأصحابه الـذين أكـرمهـم الله بصـحـبة رسـوله الطـيبين الطـاهـرين ، وعـلى التابعـين لهـم بإحـسان إلى يـوم الـدين وبـعـد :
فـيـقـول الله تعالى عـن النساء : { فـلما رأى قـميصـه قـد مـن دبـر قال إنه مـن كـيـدكـن عـظـيم } سـورة يـوسـف 28، ومـن مـواقـف النساء مـوقـف السـيـدة عـائـشة أم المؤمنـين مـن السيـدة فاطـمة الـزهـراء بنت رسـول الله صلى الله عـليه وسـلم حـيث كانت تـغـار مـن السـيـدة خـديـجـة بنـت خـويلـد رضي الله عـنـها ، ومـن ثـناء رسـول الله صلى عـليه وسـلم عـليها في كل مـوقـف ، حـتى قـالـت له : ماذا يعـجـبـك في عـجـوز شـمـطـاء ، حـمـراء الشـدقـين ، قـد أبـدلك الله خـيرا منها ؟ .
فـكـيـف رد رسـول الله صلى الله عـليه وسـلم ؟ ، فـقال لها : ( لا والله ما أبـدلني الله خـيرا منها ، فـقـد آمـنت بي إذ كـفـر بي الناس ، وصـدقـتـني إذ كـذبني الناس ، وواسـتني بمالها إذ حـرمني الناس ، ورزقـني الله عـز وجـل ولـدها إن حـرمـني أولاد النساء ).
( الشـمـط في الشـعـر اخـتلافـه بـلـونـين مـن سـواد وبياض ، والشـمـط : شـيب اللحـية والـشمـطـات الشـعـرات البيـض في شـعـر الـرأس ) ، ( لسان العـرب ــ مادة شـمـط )
وبعـد ذلك لما قابلـت فاطـمة قالت لها : لا يغـرنـك ثـناء رسـول الله صلى الله عـليه وسـلم عـلى أمـك ، فـقـد تـزوجـها ثـيـبا وتـزوجـني بكـرا ، فـلما اشـتكـت لـرسـول الله صلى الله عـليه وسـلم قـول عـائشة قال لها : إذا قـالت لـك هـذا فـقـولي لها : ولـكـن أمي تـزوجـت رسـول الله صلى الله عـليه وسـلم بـكـرا وأنت تـزوجـته ثـيبا .
أشـار الأوسي إليه في تفـسيره ( روح المـعـاني ) في تفـسيره للآيـة الكـريـمة قـوله تعالى : { عـسى ربـه إن طـلـقـكـن أن يـبـدله أزواجـا خـيرا مـنـكـن مسـلمات مـؤمـنات قانـتـات تائـبات عـابـدات سـائحـات ثـيبات وأبـكارا } سـورة التحـريم 5 .
والبعـض يقـول كـيف يحـدث كل هـذا في بـيت رسـول الله صلى الله عـليه وسـلم ؟ نعـم يحـدث هـذا لأن هـذا مبـني عـلى الغـيرة عـلى رسـول الله ، وأنهـا عـلامـة الحـب لـرسـول الله صلى الله عـليه وسـلم ، وحـبه مـن حـب الله ، ومحـبة عـائشة وغـيرتها عـلى الرسـول ، رغـم أن الرسـول تـزوجـها وهي صـغـيرة لما تـبـلغ الـعـاشـرة مـن عـمـرهـا ، وهـي الـوحـيـد ة مـن نسـائه صـلى الله عـليه وسـلم تـزوجـها بكـرا، وقـد ورد سـؤال الـرسـول لعـمـر بن الخـطـاب رضي الله عـنه ، ( فـقـال يا عـمـر: ما بـلـغ مـن محـبـتـك لي )، قال عـمـر: أنـت أحـب إلي مـن مالي ، فـقال رسـول الله صلى الله عـليه وسـلم: ( لـم تبـلغ يا عـمـر) ، ثـم ذهـب عـمـر إلى رسـول الله صلى الله وسـلم فـقال يا رسـو الله : أنـت الآن أحـب إلي مـن مالي وأهـلي ونفـسي والناس أجـمعـين ، فـقال الرسـول : ( الآن بـلـغـت يا عـمـر ) ، والله يـقـول عـلى لـسانه : { قـل أن كــتـم تحـبـون الله فاتبعـوني بحـببـكـم الله ويـغـفـر لـكـم ذنـوبـكـم والله غـفـور رحـيم }سـورة آل عـمـران 31، وقال تعالى : { ومـن يـطـع الـرسـول فـقـد أطـاع الله ومـن تـولى فـما أرسـلناك عـليهـم حـفـيـظا }سـورة النساء 8. .
وقال تعالى: { ولا تلـمـزوا أنفـسكـم ولا تـنابـزوا بالألقـاب } سـورة الحـجـرات 11، هـهـنا نهى عـن صفة أخـرى مـذمـومة لا تـلـيـق باهـل الإيمان ،هي صـفة اللـمـز وهـو أن تعـيـب أحـدا مـن الناس ، مـن أجـل صـفـة مـن صـفات الخـلـق بفـتح الخـاء، وقـوله : { ولا تـلـمـزوا أنفـسكـم } ،ولـكـن كـيـف يـلمـز الإنسان نفـسه ؟ ، نـعـم يـلـمـز الإنـسان نفـسه إذا لمـز غـيره ، لأن ذلك اللمـز يكـون سـببا لـلـمـزه ، المعـامـلة بالمـثـل ، والقـرآن الكـريم أنـزل الآخـرين مـنزلة الإنسان نفـسه ، ثـم إنـك حـين تـمـز الناس تجـرهـم عـلى أن يـلمـزوك ، عـلى حـد قـول الشـاعـر :

لسانـك لا تـذكـر به عـورة امـريء فـكـلك عــــورات وللناس ألــسـن
وعـينـك إن أبـدت إلـيك مسـاوئـــا فـصنها وقـل يا عـين للناس ألسن

ومـن ذلك أيضا قـوله تعالى : { فإذا دخـلتم بـيوتا فـسلـمـوا عـلى أنفـسكم } سـورة النـور 61، لأنـك حـين تسـلم عـلى الناس يـردون عـليـك السلام فـكأنـك سـلمت عـلى نفـسـك.
وقـوله تعالى : { ولا تنـابـزوا بالألـقاب }سـورة الحجـرات11، نهي آخـر عـن التـنابـز بالألـقـاب أي يـدعـو أحـدكـم أخـاه بـلـقـب يكـرهـه ، والتـنابـز مـن نـبز الشيء يعـني أبعـده وتركه كـذلك حـين تنـادي شخـصا بلقـب يـكـرهـه ، فـكأنـك تبعــده عـنـك وتـوسـع الفجـوة بـيـنـك وبينه .
والأسـماء عـنـدنا في اللغـة اسـم ولقـب وكـنية ، الاسـم هـو ما يـطـلـق عـلى المسمى فـيصـير عـلما مـثـل أحـمد ومحمد وعـبـد الله وعـبـد الرحـمن ، واللـقـب هـو ما يشـعـر بمـدح أو بـذم مـثـل الصـديـق للمـدح ، والجـاحـد والكـذاب للـذم ، أو أن نسمي أحـد الضـعـفـاء مثـل ( سـليمان بطـة ) أما الكـنـية فهـي ما صـدرت بأب أو أم مـثـل أبي بكـر، وأم المؤمنـين وأبي العـيـناء.
إذن : لا يجـوز أن نـنادي شـخـصا مـثـلا بـلفـظ مـكـروه وهـو لاحـبه ولا يحـب أن يـنادى به مـن ذلك ما ذكـرناه مـن قــول عـائشة أم المـؤمنـين لصفـية أم الـمـؤمنـين يا يهـوديـة ، والتـنابـز بالألـقاب يـزرع الأحـقاد والضـغائـن ، ويهـيـج الغـرائـز والـغـضـب عـليـك ، ولـم لا تناديه بأحـب الأسـماء إليه لتعـطـفـه إلـيـك .

حـتى أن الفـقـهاء قالـوا إذا أذنـب الـرجـل ذنـبا ثـم تاب مـنه، فـإيـاك أن تـذكـره به أو تعــيره به ، لأن ذلك يـعـد قـذفـا له ، إلى جـانب أنـك تعـين عـليه الشـيطـان، كـمـن تاب عـن الخـمـر وتـقـول له ( يا خـمـوري )، أو تـاب عـن الـقـمار وتقـول له ( يا قـمرتي ) وهـكـذا .
لـذلك قال الله تعالى بعـدها : { بئـس الاسـم الفـسوق بـعـد الإيـمان } سـورة الحجـرات 11 يعـني بـئس ما تقـول لأخـيـك حـينما تـذكـره بماض يـريـد أن ينـساه ، وقـبيـح بـك أن تعـيره بعـد أن تاب ، كـما أنه قـبيح بـك الفـسـوق ( الخـروج ) بعــد الإيـمان .
قال تعالى : { ومـن لم يتـب }يعـني عـن السخـرية والتـنابـز بالألـقـاب { فـأولـئـك هـم الـظالمـون }نـعـم هـم الظـالمـون لأنـفـسهـم بعـد اتـباع المنهـج في بهـذا النهـي ، وظالمـون لـغـيرهـم حـين ينادونهـم بهـذه الألـقـاب المـكـروهـة ، فـمـن حـق الـذي تاب ألا تـذكـره بعـيبه ، وإلا تعـيره به ، ولا يـوجـد إنـسان مـبـرأ مـن العـيـوب إلا مـن عـصمـه الله .
قال الله تعالى : { يا أيها الـذين آمنـوا اجتـنـبـوا كـثيرا من الظـن إن بعـض الظـن إثـم ولا تجـسسوا ولا يـغـتـب بعـضـكـم بعـضا، أيحـب أحـدكـم أن يـأكـل لحـم أخـيه مـيـتا فـكـرتمـوه، واتقـوا الله إن الله تـواب رحـيم }سـورة الحجـرات12 .
إن الله تعالى يأمـرنا أن نتـجـنـب كـثـيرا مـن الظـن ، والظـن هـو الخـاطـر الـذي يخـطـر بالبال ، وهـو نـوعـان ، ظـن حـسن وظـن سـيء ، الظـن الحـسن لا شيء فـيه ولا إثـم عـليه ، بـل هـو مـن مطـلوبات الشـرع الشـريف كما سـنـرى ، والمنهـي عـنه هـنا هـو ظـن السـوء الـذي يـؤدي إلى فـساد في العـلاقات الإنسانية ويــتـرتـب عـليه عـقـوبة شـرعـية .
لـذلك عـلمنا رسـول الله صلى الله عـليه وسـلم أن نجـتـنـب ظـن السـوء، فـلما كان صـلى الله عـليه وسـلم معـتكـفـا ، وجـاءته صـفـية أم المـؤمنـين تطـلب مـنه شـيئا فـخـرج إليها رسـول الله وكانـت محتـجـبة ، ورآهـما رجـلان مـنه الصحـابة فانصـرفا مخـافـة أن يـراهـما رسـول الله صلى الله عـليه وسـلم وهـو في هـذه الحـالة ، لـكـنه رآهـما فـنـاداهـما وقال : ( عـلى رسـلكما ــ يعـني ــ قـفـا إنها صـفـية ) ، وعـلما ما أراد رسـول الله صلى الله عـليه وسـلم ، فـقالا له : لا يكـون هـذا مـعــك يا رسـول الله، فقال : ( إن الشـيطان يجـري مـن ابن آدم مجـرى الـدم ).
إذن : فـرسـول الله صلى الله عـليه وسـلم يعـلمنا أن نغـلـق باب ظـن السـوء ، ونقـطـع أسـبابه ونـربأ بأنفـسنا أن نضـعـها في هـذا المـوضـع المشـتبه ، حـتى لا يجـد المغـرضـون بابا مفـتـوحـا لسـوء الظـن .
وفي قـصة الإفـك يـعـلمنا الله سـبحانه وتعالى ويحـثـنا عـلى أن نـظـن بالمـؤمنـين خـيرا ، وأن نبـتعـد عـن ظـن السـوء فـي المـؤمـنـين ، فـيقـول الله عـن حـديثـهـم في شـأن عـائشـة أم المؤمنين : { لـولا إذ سـمعـتمـوه ظـن المـؤمنـون والمـؤمنـات بأنفـسهـم خـيرا وقـالـوا هـذا إفـك مـبين }سـورة النـور12 .
وللحـديث بقـية إن شـاء الله نـوا صله في حـلقة قـادمة ، وإلى أن نلتقي اسـتـودعـكم الله والسـلام عـليكم ورحمة الله وبركاته.

ناصر بن محمد الزيدي