[author image="https://alwatan.com/v2/v2/wp-content/uploads/2016/07/yy.jpg" alt="" class="avatar photo" height="60" width="60"]د. صلاح الديب[/author]
” ينبغي على البلدان العربية أن تتجرّأ على إزاحة النقاب وتعالج بعمق الأسباب التي تفضي إلى ارتفاع نسبة المنتحرين وتسارع إلى وضع حدّ لتدهور الأوضاع الاجتماعية والثقافية والاقتصادية والشعور بالغبن والتهميش في ظل تغير بينة المجتمعات العربية وظهور تباين كبير بين طبقات المجتمع وارتفاع استهلاك المخدرات وفتور الوازع الديني أيضا مؤكّدين أن هذه الخطوات تعتبر جزءا من الحرب الشاملة ضدّ الإرهاب ومواجهة أدقّ تفاصيله .”
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

حالات الانتحار من الظواهر التي انتشرت في العصر الحديث ويرى البعض أنها السبيل الوحيد للتخلص من كل الضغوط ومن كل المشاكل التي تواجههم على المستوى النفسي والشخصي والاجتماعي مما يترتب عليه ان تصبح فكرة الهروب من كل هذه الأشياء وليس مجرد الهروب لفترة بل الاختفاء الكامل فلا يجد أمامه سوى الانتحار الطريق الوحيد بالنسبة له ويطلق عليه في بعض الدول ( مرض العصر) .
لقد أصبح الانتحار ظاهرة طارئة تهدد المجتمع العربي ولكن الجميع لا يودون أن يتطرقوا إليها والآن تشهد معدلات الانتحار في العالم العربي ارتفاعا سريعا ولافتا رغم حالة الغموض والتكتم التي تحيط عادة بهذه الظاهرة الخطيرة .
ويرجع ذلك إلى القاعدة التي تقول إن نوعية الانتحار هي شفرة أو مفتاح لسببه وبما أن أغلب الحالات غير المرضية كانت مرتبطة في السابق بأسباب اقتصادية واجتماعية وغيرها فإن بلادنا العربية لم تكن تفصح عنها.
وإن الخطر الكامن في هذه الظاهرة ليس الأرقام بقدر ما هو كامن في الأسباب المؤدّية إلى الانتحار والمستجّدات التي تعيشها المنطقة على ضوء المتغّيرات الأمنية والسياسية والاجتماعية والتي أدّت إلى استسهال الانتحار لدرجة أنه بات مهربا لكلّ من يعترضه أيّ عائق في حياته مهما كان بسيطا أو معقّدا .
ويعتبر الانتحار عاشر أسباب الموت عامة وثالثها بين الأفراد الذين تتراوح أعمارهم ما بين 15 و44 عاما.
وحسب تقديرات منظمة الصحة العالمية يوجد حوالي أكثر من مليون شخص ينتحرون سنويا في العالم.
كما أفادت المنظمة في تقرير لها بأن معدلات الانتحار في العالم قد ازدادت بنسبة 65 بالمئة في آخر 45 عاما وهي ظاهرة متفشية بين كافة الثقافات. وفي العالم العربي لم تكن هذه الظاهرة تثير مثل هذا القلق من قبل وذلك مردّه بالأساس إلى التعتيم الذي كانت تحيط به بعض الحكومات هذا الملف، إضافة إلى غياب الأرقام والإحصائيات الدقيقة .
وأغلب دوافع التخلص من الحياة من الأسباب التقليدية من قبيل تردي الوضع الاقتصادي وانتشار البطالة والفقر والتقاليد الاجتماعية القاسية .
وتشير الأرقام إلى أن ما بين 11 و14 ألف شاب وفتاة يحاولون الانتحار كل عام وتتركز أعلى المعدلات في الدول العربية التي ترتفع فيها نسبة الفقر والبطالة .
لكن الانتحار لا يرتبط دائما بالبطالة والفقر كما يظن البعض وأن طموح الشباب في بعض البلدان العربية وصل إلى أدنى مستوياته خلال السنوات القليلة الماضية وهو مؤشر خطير يزيد من احتمال تفاقم ظاهرة الانتحار للشعور بعدم الرضى عن الأوضاع الحالية .
ونوّه إلى أن إحدى الدراسات الصادرة عن المركز القومي للبحوث الاجتماعية حول أحلام المصريين أظهرت أن الغالبية العظمى من شريحة البحث تحلم بكوب ماء نظيف وركوب وسيلة مواصلات آدمية وتوصيل الكهرباء وهذه الأحلام تشير في مضمونها إلى اكتئاب غير ظاهر لانخفاض سقف الطموح .
يوجد ضرورة لقيام المسؤولين في بلادنا العربية بوضع مقياس لجودة الحياة ومدى سعادة الشعوب وإحساسهم بالأمان في حياتهم وتعليمهم ومسكنهم بدلا من التشدق بارتفاع معدلات النمو .
وأن من أسباب الانتحار التغييرات المتسارعة التي يعيشها العالم والتي أثرت في المجتمعات العربية وطريقة عيشها وتفكيرها .
وأن تغير مفهوم الأسرة أدى إلى تغير جوهري في شخصية الإنسان وفي علاقاته الاجتماعية والأسرية وبالتالي فهذه التناقضات الاجتماعية المرفقة بالغموض حول هوية الإنسان العربي والمغربي على الخصوص هي أشياء تزيد من احتمالية الإقدام على فعل الانتحار .
يوجد ضرورة إلى أن تقوم الأسرة بدورها وتربية الأبناء التربية الدينية الصحيحة ورعايتهم بصورة مستمرة والخروج بهم من دوامة اليأس خاصة مع إهمال الدين كمادة أساسية في المدارس وأن من الحلول لمواجهة هذه الظاهرة الطارئة تتمثل في تحسين التعليم وتنمية فرص العمل وخاصة التركيز على الرعاية الاجتماعية مع الحرص في وسائل الإعلام على التناول العلمي والمعرفي لظاهرة الانتحار عبر استدعاء الخبراء لتحليل الظاهرة والعمل على الحدّ منها لا أن يتم يتناول موضوع خطير في حضور سياسيين لا يراعون في تحليلاتهم سوى المكاسب السياسية والتعاطف الشعبي .
ينبغي على البلدان العربية أن تتجرّأ على إزاحة النقاب وتعالج بعمق الأسباب التي تفضي إلى ارتفاع نسبة المنتحرين وتسارع إلى وضع حدّ لتدهور الأوضاع الاجتماعية والثقافية والاقتصادية والشعور بالغبن والتهميش في ظل تغير بيئة المجتمعات العربية وظهور تباين كبير بين طبقات المجتمع وارتفاع استهلاك المخدرات وفتور الوازع الديني أيضا مؤكّدين أن هذه الخطوات تعتبر جزءا من الحرب الشاملة ضدّ الإرهاب ومواجهة أدقّ تفاصيله .
ولن أتعرض إلى موقف الأديان السماوية من الانتحار أو حتى محاولة الانتحار الذي هو واضح ومعروف ولأنني لست رجل دين لا أتعرض أو أناقش الأمر من هذه الناحية .
يعتبر الوصول إلى مرحلة الانتحار ليس وليد لحظة أو موقف واحد ولكنه وليد لسلسلة من المواقف ومن المشاكل التي تشكل للفرد ضغوطا كثيرة في مختلف نواحي الحياة وبترك هذه المشاكل واحدة تلو الأخرى دون محاولة حتى التعامل مع أقلها بمحاولة الحل أو أيضا عدم ترك المجال لمثيلاتها في التكرار بما يؤدي إلى تخفيف حدة تعدد وتنوع المشاكل وبما يجنب الفرد التشتت أو محاولة الخروج منها أو محاولة السيطرة عليها والحد منها ويتم ترك هذه المشاكل وبكل سلبية وبكل تهاون مع المشاكل الصغيرة وأيضا بكل تهاون مع المشاكل الكبيرة وفجأة نجد أمامنا ماردا كبيرا لا يمكن لنا أن نراه بكامل هيئتة من عظم ضخامته .
ودعوني أضرب لكم مثالا صغيرا علنا نستطيع توضيح الصورة كيف تتكون أو إلى أي مدى تصل لقد صادف معظمنا إن لم يكن جميعنا أننا شاهدنا قطعة أرض خالية في أي من مكان لم يكن بها أي شيء وقام أحد المارة بإلقاء كيس من القمامة في هذه الأرض فلو افترضنا أنه جاء من يزيل كيس القمامة هذا هل توجد أي صعوبة ؟ وهل توجد أي نتائج سلبية نتجت على المحيطين بهذه الأرض ؟ وأيضا هل احتاج الأمر إلى تكاليف وإمكانيات عالية لإزالة كيس القمامة ؟ .
أعتقد أن غالب الظن ستكون الإجابة قاطعة بـ ( لا ) على كل الأسئلة السابقة كذلك الحل بالنسبة للصعوبات والضغوط التي تواجهنا في حياتنا فلو قمنا أو حاولنا التعامل مع كل منها أولا بأول لاستطعنا الحفاظ على أنفسنا من الوقوع فريسة لها بل نكون بكل بساطة أو بإمكانيات أقل استطعنا تحجيمها وأيضا العمل على القضاء عليها .
ودعوني أكمل المثال السابق إذا وقف الجميع موقفا سلبيا تجاه كيس القمامة الذي تم القاؤه في هذه الأرض الخالية سنرى أن الأمر سيزداد تعقيدا وسوءا يوما بعد يوم وإن تم ترك المجال لمن يلقون بأكياس القمامة واحدا تلو الآخر ويوما بعد يوم حتى يصبح هذا المكان الخالي ( مقلب للقمامة ) الذي ينتج عنه الآن الروائح الكريهة وايضا الأمراض والأوبئة كذلك الحشرات والحيوانات الضارة فما رأيكم الآن في هذا الكم الهائل من القمامة الذي تكون نتيجة لسلبياتنا ولعدم التعامل معها منذ البداية عندما كان الأمر أكثر يسرا وأكثر بساطة لكن اليوم بعد أن أصبح الأمر الآن يسبب نوعا حقيقيا من الضغوط وأيضا أصبح لا يمكن التعايش معه بهذا الحال .
دعوني افترض أن أحد ملاك العقارات بجوار هذه الأرض ( مقلب القمامة ) الآن بعد أن أصبح الأمر يمثل له ضغطا قويا جدا ويتأثر به بشكل مباشر أو غير مباشر جراء هذا المكان الذي تحول إلى ( مقلب للقمامة ) من روائح كريهة ومن أمراض ومن حشرات وحيوانات ضارة وأيضا من الشكل غير الحضاري وغير المقبول أيكون الحل بالنسبة له أن يترك هذا العقار ويتخلى عنه ويذهب ليبحث لعله يجد مكانا آخر يقيم فيه ولنفترض أيضا أنه لا يمتلك الإمكانات المادية التي تساعده للحصول على مسكن آخر حتى ولو كان صغيرا أو حتى وإن كان بالإيجار وأيضا مع صعوبة أن يجد المشتري السريع للعقار الذي يمتلكه فهل يكون الحل هو أن يترك العقار الخاص به والذهاب للعيش والنوم في الشارع على أحد الأرصفة .
هل الهروب بهذه الكيفية أو هذا الحل هو المناسب ( لا ) وألف ( لا) عليه أن يواجه هذا المكان الذي تحول إلى ( مقلب للقمامة) والتمسك بحقه في الحياة وأيضا يتمسك بحقه في ملكه ولا يفرط فيه أبدا وعليه أن يعلم جيدا أنه إذا ترك المجال لهذا المكان أن يصل إلى هذا الحال فينبغي أن يكون إيجابيا للتخلص ومواجهة كل ما يؤدي إلى هذا .
كذلك الحال في المشاكل والضغوط التي تواجهنا إذا تركنا لها المجال يوما بعد يوم سيصبح أمرا يصعب علينا إدراكه أو مواجهته .
فيجب أن يكون قرارنا الآن هو مواجهة كل المشاكل والقضاء على كل ما هو ممكن والتعامل مع ما هو أصعب وعدم ترك الفرصة لليأس أو للسلبية في داخلنا فنحن نستطيع أن نصنع الكثير والكثير .

د. صلاح الديب
رئيس المركز العربي للاستشارات وإدارة الأزمات وخبير إدارة الأزمات في مصر والوطن العربي
[email protected]