[author image="https://alwatan.com/v2/v2/wp-content/themes/watan/images/opinion/suodalharthy.jpg" alt="" class="avatar photo" height="60" width="60"]سعود بن علي الحارثي[/author]
” كتاب (رحلتان إلى اليابان)، يفصل بين الرحلة الأولى التي قام بها علي أحمد الجرجاوي في 1906 والثانية التي تحدث عنها الدكتور صبري حافظ في 2012م، قرن من الزمن. تكمن أهمية الكتاب فيما يعرضه من معلومات مهمة وما يحدثه في القارئ العربي من مشاعر الألم والحزن على واقع المقارنات والأسئلة الدقيقة والاجابات الحصيفة التي يستخلصها من القراءة المتأنية لفترات تاريخية تعد مفصلية في حياة العرب،”
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

عودتنا مجلة الدوحة الأدبية، إلى جانب ما تتضمنه ملفاتها الثقافية والفنية المتنوعة من تقارير ومقالات وملفات قيمة، أن تقدم لقرائها مع كل عدد من أعدادها هدية مجانية، عبارة عن (كتاب) يتم اختياره ضمن مشروع تثقيفي يهدف إلى تعزيز الوعي وتنمية الشعور الوطني وتحقيق غايات التقدم والنهوض من كبوة التخلف وتوليد الأسئلة المحفزة على التفكير والإبداع التي يطرحها المفكر والمثقف وبذل الجهد للإجابة عليها بغية إحداث انفراج للأزمات التي تمر بها الأمة العربية ... من بين هذه الكتب المهمة التي يحسن بكل عربي أن يقرأه بعناية ليستفيد من رسالته ويستخلص الدروس من المقارنات التي يتضمنها بين حال العرب والشعوب الأخرى، عبر زمن مضى عليه أكثر من مئة عام وآخر نعيشه، كتاب (رحلتان إلى اليابان)، يفصل بين الرحلة الأولى التي قام بها علي أحمد الجرجاوي في 1906 والثانية التي تحدث عنها الدكتور صبري حافظ في 2012م، قرن من الزمن. تكمن أهمية الكتاب فيما يعرضه من معلومات مهمة وما يحدثه في القارئ العربي من مشاعر الألم والحزن على واقع المقارنات والأسئلة الدقيقة والإجابات الحصيفة التي يستخلصها من القراءة المتأنية لفترات تاريخية تعد مفصلية في حياة العرب، وتنمية الشعور بأهمية التغيير واللحاق بالركب الحضاري. أهدى الجرجاوي رحلته عن (أخبار تلك الأمة الراقية) اليابانية، إلى كل (عالم وأديب في مصر، خصوصا الناشئة الحديثة التي هي موضع آمال الأمة) بهدف (نفع بلادي وخدمة ديني وجامعتي)، فكلا الكاتبين يسعيان من عرض تجربتهما تحقيق التقدم لبلادهما (واستلهام النماذج التي طورت نفسها، وحظيت بمكانة مرموقة بين الأمم)، وتطبيقها على مصر خاصة والبلاد العربية على وجه العموم. فلماذا واصلت اليابان نهضتها الاقتصادية والسياسية والاجتماعية ولحقتها شعوب وأمم وبلدان عديدة في المشرق والمغرب؟ فيما جرت أحوال الأمة العربية عكس المسار النهضوي التقدمي الذي ميز هذا العصر فشهدت المزيد من التخلف والجهل والانقسام وأتت الحروب الداخلية الطاحنة على المكتسبات والانجازات الحضارية والمدنية العصرية؟ لماذا لم ينجح العرب في تجاوز صدمتهم الحضارية الأولى في (منتصف القرن السابع عشر، عندما تنبهوا للهوة الواسعة بينهم وبين الغرب) رغم المحاولات الجادة والجهود الحثيثة من قبل المفكرين والمثقفين والكتاب (لإعادة اكتشاف) أسباب الواقع العربي وتحريره من العوائق و(مسببات التأخر). لقد رصدت الرحلة الأولى بذور النهضة اليابانية العلمية وانطلاقتها الحضارية واصرار اليابانيين لبلوغ الحداثة وتحقيق التطور، وما تشهده اليابان من تقدم سريع خاصة في مجال النقل والاتصال والصناعة، لقد كانت وسيلة (المواصلات الوحيدة التي تنقل مصريا إلى اليابان في مطلع القرن العشرين، هي القطار ثم السفينة، بينما كانت الطائرة والنفاثات العملاقة بالتحديد، قد قلصت زمن الرحلة التي استغرقت شهورا في الرحلة الأولى كي يصل صاحبها إلى اليابان، فلم تتجاوز عدة ساعات في الرحلة الثانية)، وبالرغم من أن الحرب العالمية الثانية التي وضعت أوزارها في الثاني من سبتمبر عام 1945، أدت إلى تدمير شبه كامل للبنية التحتية والاقتصاد الياباني، وطمس الانجازات التي تحققت ورصدت رحلة الجرجاوي انطلاقتها، إلا أنها لم تتحول إلى عائق أخرها عن النهوض والتقدم بل العكس هو الصحيح فقد كانت عاملا لتحقيق النهضة العلمية والاقتصادية الثانية ودرسا استلهمت منه القدرة على كيفية التغلب على التحديات وتجاوز صدمة الحرب وأهوالها .
في كلا الرحلتين لم يتغير حال العرب ولم يزد نصيبهم عن المتابعة والاستهلاك والاستخدام وتكرار طرح الأسئلة وبذل الجهد واهدار الوقت للإجابة عليها. فبرغم المشاريع الكتابية التنويرية وعرض مشاهدات وخلاصات تجارب المفكرين والعلماء والكتاب العرب ووصف رحلاتهم إلى دول العالم المتقدم خلال القرن المنصرم، ومدى انبهارهم بالتطور الصناعي والعمراني فيها، وتبيان أسباب التقدم الذي بلغته تلك الدول، واستلهام تجاربها النهضوية، مقرونة بالدعوة إلى اللحاق بالركب الحضاري، إلا أنها لم تجد نفعا في تحقيق النهضة العربية المنشودة، فأين يكمن الخلل إذن؟ يقول الجرجاوي في مقدمة رحلته التي كتبها قبل أكثر من مئة عام : (لقد أصبحنا في عصر تتسابق فيه الأمم إلى إحراز قصب السبق في ميدان الحضارة)، داعيا إلى أهمية أن تتعرف الشبيبة المصرية على (مثل هذه الرحلة ليروا أن في الشرق أمة في الثلاثين ربيعا من سني حياتها الجديدة تنظر إليها الأمم الأخرى نظر الاجلال والاعتبار حتى إذا قرأوا ما لم يصل إلى علمهم عنها دبت في نفوسهم الحمية فنزعوا رداء الكسل وقالوا: حي على خير العمل). لقد رصد الجرجاوي مشاهداته لملامح النهضة الاقتصادية والتنموية التي وصلت إليها المدن اليابانية وفي وقت مبكر كانت فيه معظم دول العالم في الشرق والغرب تعيش عصر التخلف والانغلاق، فقد كانت (يوكوهاما) (أول مدينة في اليابان مد فيها الخط التلغرافي في 25 ديسمبر 1869 وفي سنة 1870 مد التلغراف بينها وبين طوكيو وفي سنة 1872 مد منها خط سكة حديدية إلى طوكيو)، وقد (أخذت هذه المدينة زخرفها من المدنية ودلائل الحضارة إلى درجة راقية خصوصا الأنوار الكهربائية التي تسطع فيها إذا توارت الشمس بالحجاب. وشوارعها متسعة مفروشة بالبلاط ... )، ورصد في رحلته عدد الجامعات والمدارس والمستشفيات التي بلغت في أعدادها وتخصصاتها شأوا يؤكد على الثورة العلمية التي تشهدها البلاد، ويبرز وصف الكاتب وكلماته في التعبير، عن مدى الانبهار بما رآه من تقدم ونشاط اقتصادي شهدته المدن اليابانية في تلك المرحلة التاريخية التي قام فيها بزيارته، (ماذا عسى أقول أو أشرح ما رأيته في عاصمة بلاد الشمس المشرقة زيادة عن المتقدم؟ بل ماذا يمكنني أن أصف المدنية وحركة التجارة وكثرة البضائع وانتظام الشوارع ؟) لقد عرف اليابانيون (كيف يكونون أمة حية لا تدع غيرها يستأثر بمنافع بلادها) . من محاسن الصدف أن تأتي زيارة الجرجاوي في مرحلة تستعد فيه اليابان لصناعة نهضتها العلمية والاقتصادية التي مكنت الكاتب من رصد محفزاتها وأسباب ودوافع نجاحها والمتمثلة باختصار في:
• (في القرن الثامن عشر بدأت الحكومة في إرسال الارساليات العلمية إلى أوروبا.
•) في اليوم الذي اعتلى فيه الامبراطور (متسوهيتو) الرابع والعشرون من ملوك العائلة الحاكمة العرش في 1867 (منح أمته الدستور والمجلس النيابي) والتفت إلى (نشر العلوم في بلاده) وكانت البلاد حينئذ (هادئة لا حروب خارجية ولا ثورات داخلية تعيق سير الترقي في الأمة). إذن تشرب القيادة وحيازة الإمبراطور على (كثير من العلوم والفنون التي ثقفت عقله وهذبت نفسه)، وعدم ميله إلى (الترف وعزة السلطان)، والالتفات إلى التعليم، وإصلاح النظام السياسي وتعزيز الديمقراطية والمشاركة المجتمعية، والاستقرار الداخلي كانت ضمن العوامل الأساسية لتحقيق النهضة .
•(استعداد الأمة الطبيعي) لأن الياباني امتاز بالذكاء والفطنة وحب المعالي.
تحدث الكاتب في فصل خاص عن الوعي العميق والثقافة اليابانية المنفتحة فيما يخص تعليم المرأة اليابانية وادراك أهمية اسهامها في الحياة العلمية وفي النهضة الاقتصادية (وهم ولا شك لم يقدروا المرأة هذا القدر إلا بعد علمهم بنفعها في المجتمع الانساني...) ومقارنته بالواقع المصري، حيث الاعتقاد بأن (تعليم المرأة مفسد لأخلاقها معرض عرضها للابتذال ...). وما زلنا في العالم العربي حتى اليوم نطلق التساؤلات تلو التساؤلات حول ملف المرأة حالها كحال مختلف الملفات الجدلية (أما آن الأوان لهذه الغيمة أن تنقشع؟ بل أما تأخر انقشاعها! إلى متى يتم تعليق قضايا المرأة فقط لأن غضبها ناعم؟ وأين العدالة في ذلك. إلى متى نصبر؟ ولماذا؟ وماذا عمن صبرن حتى وافتهن المنية فلم يذقن طعم حريتهن ولم يصلن لطموحاتهن، ماذا عن عمرنا الذي ضاع بين حواجز وعوائق وحرمان وتأخير؟ أين العوض ومتى الفرج؟). في الرحلة الثانية قدم الدكتور صبري حافظ تحليلا دقيقا لسمات الشخصية اليابانية وخصائصها المميزة مؤكدا على كلام الجرجاوي في الرحلة الأولى، فهي (تتحمل الحياة في جلد وصبر وأناة، و(تفصل بصرامة لم أعرف مثيلا لها فيما عرفته من بشر
وثقافات بين عالمها الداخلي وعالمها الخارجي ... )، هل لهذه السمات رابط وعلاقة لتمكن ونجاح اليابان من النهوض مرة تلو الأخرى؟ فبعد انتهاء الحرب العالمية الثانية تحولت من جديد إلى قوة اقتصادية عالمية، وذلك خلال بضعة عقود محققة انجازا حضاريا كبيرا ومعجزة اقتصادية ظلت نموذجا يتحدث عنه العالم. واسترجع الدكتور صبري حافظ العديد من المواقف التي حدثت له في لوس انجلوس أثناء عمله في جامعة كاليفورنيا في 1983، وكيف كانت النصائح تنهال عليه من الاميركيين وحثه (عندما أراد شراء سيارة خاصة) بعدم شراء السيارات الاميركية وعليه أن يختار اليابانية (حينما خرجت للسوق الاميركي وجدت أنه مشبع وقتها بالبضائع اليابانية من الساعات والأجهزة الالكترونية، وأشرطة الفيديو وحتى الاجهزة المنزلية من غسالات وثلاجات ومكانس وغيرها) ما يؤكد على (قدرة البضائع اليابانية على التفوق من الناحيتين التقنية والانتاجية ...) . عرض الكاتب في رحلة 2012م لعدد من المفاجآت التي عبرت عن حجم التقدم الذي تشهده اليابان في مختلف المجالات والحقول العلمية منها على سبيل المثال :
• (في دورات المياه العمومية) وما إن جلست على مقعد التواليت حتى وجدت أن جلوسي عليه حركه في شكل ضغطة بسيطة ما لبثت أن أطلقت عملية تنظيف له وهذه هي المرة الأولى التي أستخدم فيها تواليت ينظف نفسه بنفسه)، ومن (خصائص هذا المقعد أنه يقوم بتدفئة قاعدة الجلوس أيضا حتى لا يجلس مستخدمه على قاعدة باردة.
• المفاجأة الثانية في التاكسي الذي وجده (أنظف تاكسي ركبته في حياتي) كما أن (الباب يفتح تلقائيا أو أوتوماتيكيا وحده) وشتان بينه وبين (التاكسي المصري الرث) الذي يتميز بـ (القذارة الفعلية والتلوث الصوتي)، وقد خصص ما يزيد عن أربع صفحات من رحلته في وصف خصائص التاكسي الياباني.
• )أما النظام الشامل في الطرق والفنادق والمؤسسات وغيرها فيعلم الياباني (التفكير الاستباقي في كل خطوة) والياباني حينما يرتكب هفوة (وهو أمر غير وارد أصلا فإنه يشعر داخليا بتبكيت الضمير وبأنه يرتكب إثما ضد نفسه، فنظرة استهجان واحدة قد تقض مضجعه لليلة كاملة). ودائما ما يختم الكاتب مفاجآت الحضارة بمقارنة مع بلده مصر وشتان بين الحضارتين. بعد أكثر من مائة عام يواصل العرب نقل مشاهداتهم الصادمة لحجم التقدم العلمي والتطور التقني في مختلف المجالات الذي تعيشه شعوب وأمم الأرض، وما زلنا في المقابل نجري عكس المسير وننحدر نحو المزيد من التخلف والتشرذم والانقسام وإهدارالأموال وضياع الأوقات في محاصرة بعضنا البعض وتدمير الإنجازات ونشر الفوضى في بلادنا.

سعود بن علي الحارثي
[email protected]