دخلت المقومات الثقافية والتراثية للدول على خط التميز والتفرد بشكل فرض إمكانية الاستفادة منها في الإطار الاقتصادي، وتحقيق الرفاهية للمجتمع. فالسنوات الأخيرة شكلت مبعثًا تغييريًّا للنمط الفكري القديم الذي كان يرى الثقافة أحد القطاعات التي يصعب الاستثمار بها، وظهرت أصوات وتعالت تنادي بضرورة التفكير خارج الصندوق، مطالبة بوضع آليات جديدة تجعل الثقافة أكثر جذبًا للاستثمارات، كما ظهرت آراء جديدة أصبحت تدعم فكرة أن الاستثمار في القطاع الثقافي قد يكون أحد أبرز الحلول للنهوض بالاقتصاد والخروج به من الأزمة، وقد عزا أصحاب هذا التوجه أفكارهم إلى حقيقة تاريخية مستمرة تؤكد أن النهوض الاقتصادي لا بد أن يصاحب بزخم في الحركة الثقافية في هذا البلد أو ذاك، ما يسهم بشكل فعال في تحقيق طفرة وانتعاشة اقتصادية.
ويعتبر عدد من المثقفين ورواد الاقتصاد الثقافي أن الثقافة تعد إحدى السلع ذات الخصوصية الخاصة، فهي ليست سلعة قابلة للبور متى انتفت الحاجة منها، بل إنها تمتلك خاصية فريدة، فكما قالت خبيرة الاقتصاد فرنسواز بن حمو: كلما استهلكنا الثقافة، زادت رغبتنا في مزيد، فمن يتعود منذ صغره على المطالعة، فسيقرأ طول حياته، ومن يُولع بالفن السابع، فسيتابع إنتاجات السينما كلما استطاع، ما يعكس ميزة الثقافة كسلعة متجددة، تحقق عوائد اقتصادية كبيرة على المدى الطويل إذا أحسن الاستثمار بها، كما أنها تتنوع بتنوع الفنون والآداب والجماليات، سواء كانت معالم أثرية، أو إبداعات حديثة، وهو مجال يفتح الطريق لكل من يسعى إلى التفرد، ويدرك العوائد الاقتصادية الكبرى، للاستثمار في الثقافة.
ففي دراسة متخصصة في تطوير المشاريع الثقافية، ضمت 74 مدينة أوروبية، أظهرت أنه إذا كان متوسط ما تصرفه كل مدينة على النشاطات الثقافية يبلغ نسبة 0.7 في المئة من الدخل، فإن عائد هذا الاستثمار في النهاية يصل لنسبة 9 في المئة من الدخل، ناهيك عن الانطباع الجيد الذي تتركه في الأذهان كل المدن التي تعيش حالة من الانتعاش الثقافي، لدرجة دفعت دولًا كبيرة مثل الصين لدعم صناعاتها الثقافية، حيث مثلت عام 2016 ما يعادل 420 مليار دولار؛ أي 5 في المئة من الناتج القومي، حيث تم منذ 2011 افتتاح نحو 395 متحفًا جديدًا، ما يعكس رغبة الصين الواضحة في جعل مدينة شانغهاي «القبلة الثقافية الجديدة في آسيا».
وهو ما يتناغم مع التوجه العام في البلاد، حيث تسعى السلطنة بجدية إلى تعزيز الشراكة بين الثقافة والاقتصاد، بحسب رؤية تؤكد أن الثقافة إحدى أهم الدعائم الأساسية للتنمية المستدامة إلى جانب القطاعات الاقتصادية والتنمية الاجتماعية وحماية البيئة، ونظمت في سبيل ذلك العديد من الفعاليات التي تسعى إلى تحويل (المواد الثقافية) إلى مواد اقتصادية، ذات جدوى اقتصادية، أبرزها مؤتمر الاستثمار في الثقافة الذي أقيم في إبريل 2017، والذي ناقش (38) ورقة بحثية من 14 دولة، وذلك لدعم التجربة العمانية بالتجارب العربية والدولية، التي تحقق الفارق وتسرع من وضع تصور للاستثمار في الثقافة، وتعتمد السلطنة في سبيل ذلك على منجزات ثقافية عدة شهدتها عقود النهضة المباركة، وتاريخ تليد يؤكد قدرة العماني على الإبداع.
ويأتي تدشين مجلس البحث العلمي للخطة التدريبية السنوية للبرنامج الاستراتيجي للتراث الثقافي العماني وفرق إدارة المشروعات تأكيدًا على الاهتمام الذي توليه السلطنة في هذا الجانب، حيث اهتمت الخطة بشكل كبير بتعزيز الاستثمار في الثقافة عبر عدد من الفعاليات مثل استثمار موارد التراث الثقافي اقتصاديًّا، وفاعلية فرص الاستثمار في التراث الثقافي العماني، وتدشين مشروع (أبدع واستثمر)، حيث تقوم فكرة هذا المشروع على تبني الأفكار الإبداعية للشباب في المجال الثقافي، والقابلة لتحويلها لنشاط استثماري يُمكَن أصحابها من الاستمرار في الاستفادة منها كمصدر دخل ونشاط اقتصادي مستدام.