البحث بحب غامر
عن دار كنوز المعرفة بعمّان بالأردن، صدرت سنة 2017 الطبعة الأولى من كتاب "العلاقات الحضاريّة العمانيّة التونسيّة" للباحث العماني الدكتور سالم بن سعيد البحري. وينقسم الكتاب إلى 6 فصول مع إهداء وتقديم لـعز الدين المدني وفهرس ومقدّمة وخاتمة وقائمة موسّعة في المراجع. ويقع الكتاب في 223 صفحة.
هذا كتاب، كما يدلّ عليه عنوانه، في العلاقات الحضاريّة بين تونس وعمان. ولكنّ فيه سمة قلّما تجدها في نظرائه ألا وهي الحبّ الفيّاض الذي يقطر بين جنباته للبحث المنجز ولكلا البلدين موضوع البحث حتى يعسر على القارئ أن يحدّد ما إذا كان المؤلّف تونسيّا أو عمانيّا. والحقيقة أنّ الدكتور سالم بن سعيد البحري بدا في كتابه تونسيّا بقدر ما هو عمانيّ. فتجلّى حبّه للبدين بشكل غامر. ولم يخالف الصورة التي رسمها لي عنه الصديق الشاعر الأمجد إيلاهي المقيم في عمان حين حدّثني عنه قبل أن ألتقي به في تونس خلال دورة 2017 لمعرض تونس الدولي للكتاب.
غير أنّ العاطفة السيّالة التي كتب بها الكتاب لم تعف مؤلّفه من أن يكون باحثا صارما ثبتا موثّقا واسع الاطّلاع دقيق المعطيات جوّالة بين مختلف ضروب العلاقات الحضاريّة التي جمعت بين دولتي تونس وعمان من ديبلوماسيّة إلى تجارة إلى صحّة إلى تربية وتعليم إلى بحث علمي إلى ثقافة إلى نقل إلى اقتصاد. وكان في جميعها رصينا مستعينا بالوثائق الدقيقة المستقاة من المصادر الرسميّة. وكان يصهر هذه الوثائق في جداول بيانيّة يعتمدها مادّة في التحليل وعليها يبني استنتاجات راسخة متينة.
من يقرأ هذا الكتاب سيكتفي به ليسافر في تاريخ البلدين وحاضرهما وفي خصائصهما الديموغرافيّة والجغرافيّة والاقتصاديّة والزراعيّة والسياحيّة. وسيعرف من أين انحدر العمانيّون والتونسيّون وما يزرعون وما يأكلون وما يصدّرون وما يستوردون.
ويطّلع القارئ بشغف عن الدور الذي قام به العمانيّون في الفتوحات الإسلاميّة في عهد عمر بن الخطّاب حين استجاب العمانيّون لدعوته واجتمعوا لرجله عثمان بن أبي العاص الثقفي لمحاربة الفرس وحماية الحدود الجنوبيّة للخلافة الإسلاميّة (ص38).
كما يستطيب القارئ هذا الكتاب معرفة مأتى تسمية "تونس" ويعرف كلّ شيء عن أصلها وتاريخها من البربر إلى الرومان إلى العصر الإسلامي. ويتعرّف إلى سكّان تونس عددهم وتوزّعهم وإلى الخصائص المناخيّة وإلى الجزر والسهول والجبال والصحاري والسواحل التونسيّة والمحافظات والمدن التونسيّة كالعاصمة تونس وصفاقس وجربة وتوزر والمنستير وسوسة والحمامات وطبرقة وغيرها. حتى التربة التونسيّة تتعرّف إليها في هذا الكتاب، أيّها القارئ الكريم.
ويطّلع القارئ هذا الكتاب عن تقاليد السياسات الخارجيّة للبلدين وطبيعة تعاطيهما مع الشأن الدولي والنزاعات المنفجرة هنا وهناك وعن ثوابتهما في القضايا الكبرى في العالم.
كما يصحّح الكتاب الكثير من المعطيات المغلوطة الرائجة عن البلدين كالاكتفاء باعتبار سلطنة عمان دولة نفطيّة أو غازيّة ليثبت جهود أبنائها في العمارة والزراعة والسياحة والثقافة والمعرفة.
وهو كتاب شيّق مليء بالقصص والأخبار والأشعار والمراسلات والشهادات المتبادلة من تونسيّين عن عمان ومن عمانيّين عن تونس. هذا الكتاب يلغي الحدود بين بلدين أخوين شبيهين. ويوطّد أواصر المحبّة بين تونس وسلطنة عمان. ويؤكّد أنّنا يمكن أن نكون أفضل لو أصغينا إلى مثقّفينا ومفكّرينا وجعلناهم نبراسا نهتدي به. وقليلا ما قرأت بحثا معدّا بحبّ غامر ككتاب الدكتور سالم بن سعيد البحري هذا.

مصطفى القلعي
كاتب وباحث تونسي
[email protected]