يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتنبوأ
الحمد لله رب العـالمـين ، والصلاة والسلام عـلى رسـول الله صلى الله عـليه وسـلم سـيـد المـرسـلين وعـلى آله وأصاحـبه الـقـادة المهـتـدين ، وعـلى التابعـين لهـم بإحـسان إلى يـوم الـدين وبـعـد :
فإن الله تبارك وتعالى رحـمة بنـا يـحـذرنا ، مـن كل ما مـن شـأنه أن يـثـر العـداوة والبغـضاء بـين المـؤمـنـين ، حـتى يـكـون إخـوة مـتحـابـين مـتـعـاونـين ومتـراحـمين ، ولـذلك حـذرنا مـن ظـن السـوء لمـا ينـبت الحـقــد في القـلـوب ، وأن نظـن الظـن الحـسن .
والظـن الحسن هـو ان تحـتاط للأمـر ، ولا تجـعـل له أثـرا سـيئا في نفـسك ، فـإن جـاءك رجـل وقال لك : إن في هـذا الطـريق جـمـاعـة ، يتـربصـون بـك دوائـر السـوء ويـريـدون بـك شـرا، كـان عـليك أن تأخـذ با لأحـوط لـك وأن تصـدقـه وتحـذر ما حـذرك مـنه ، لأن الغـالب أنه يـريـد لـك السلامة ولا يـريـد لـك الإيـذاء .
أما إن كان الظـن يـتــرتـب عـليه حـكـم شـرعي ، فـقـد وجـب عـليـك أن تتحـقـق مـن صحـة قـوله قـبـل أن تـتخـذ أي حـكـم في حـق المخـبر عـنه، وهـذا ما يشـير إليه قـوله تعالى : { يا أيها الـذين آمنـوا إن جـاءكـم فاسـق بنـبأ فـتبـينـوا أن تصـيبـوا قـوما بجهـالة فـتـصبحـوا عـلى ما فـعـلـتـم نادمـين }سـورة الحجـرات 6 .
وتأمـل دقـة الأداء الـقـرآني واحـتياطـه في قـوله تعالى : { اجـتنـبوا كـثيرا مـن الظـن}يعـني أن أكـثر الظـن ، الظـن السييء فـيجـب اجـتنابه ، والقـليـل الظـن الحـسن وهـذا الظـن لا مانـع منه ، لـذلك قال بعـدها : { إن بعـض الظـن إثـم} لا كله ، فاحـذر أن تـقـع في الإثـم حـين تظـن بالمؤمنـين السوء دون بينـة .
وقـوله تعالى : { ولا تجسسوا }لا تتـبعـوا عـورات الناس فـذلك حـرام ، ولا تبحـثـوا عـن خـصوصياتهـم، وفي الحـديث : ( من تتـبـع عـورات المـسلـمين تتبـع الله عـورته حـتى يفـضحـه في عـقـر داره ) ، نص الحـديث عـن أبي بـرزة الأسـلمي : أن النبي صلى الله عـليه وسـلم قام بعـد صـلاة العـصر فـرفـع صـوته حـتى أسـمع العـواتـق في خـدورهـن ، قال : ( يا معـشر مـن أعـطى الإسـلام بلسـانه ولم يـدخـل الإيمان قـلبه ، لا تـؤذوا المـؤمنين لا تتـبعـوا عـورا تهـم فإنه مـن تتـبـع عـورات المـؤمـنين تـتبـع الله عـورته ، ومـن تتـبع الله عــورته فـضحـه في بيته ) اخـرجه البيهـقي في شـعـب الإيمان عـن البـراء بن عـازب .
ونـذكـر مـن لـطائف أسماء الله الحـسنى ، إذ تـلاحـظ كـثيرا مـن أسـمائه سـبحانه وتعالى لها مـقابـل كما في المحـيي المميـت ، المعـز المـذل القـابـض الباسـط .
ولـكـن اسـمه السـتار ليـس لها مقـابـل فـلا يـقال الفـضـاح ، تعالى الله عـن هـذا الصـفـة لأن سـتره مسـدول عـلى عـباده مهـما حـدث منهـم لا يفـضحهـم ، والستار صـيغـة مبالغـة مـن سـتر يسـتر فـهـو سـاتـر .
لـذلك ورد في بعـض الأحـاديث قـوله تعالى : ( أبغـض العاصي ولـكني أكـره مـن يتـتـبعـه لماذا ؟ لأن تـتبـع العـورات والسقـطات يشـيع الفاحـشة في المجـتـمـع ، فالله سـبحانه وتعالى يحـمي مجـتمـع الإيـمان مـن هـذا ، ويكـفي أن المسـتتر بالمعـصية ما يـزال عـنـده حـياء مـن الإيـمان.
والرسـول صلى الله عـليه وسـلم يقـول : ( إذا بـليـتـم ــ أي بشيء مـن المـعـاصي ــ فاسـتتروا ) نـص الحـديث ذكـره الإمام مالك بن أنس في مـوطـئه بـلفـظ ، ( مـن أصـاب مـن هـذه القـاذورات شـيئا ، فـلـيسـتـتر يـسـتـر الله ، فإنه مـن يـبـدي لنا صـفحـته نقـم عـليه كـتاب الله ) وكـذا أخـرجـه البيـهـقي في السنـن الصـغـرى (2747 ) .
وهــذا كـمـن لا يـقـدر عـلى الصـوم مـثـلا وعـنــده عـذر ويـباح له الفـطـر ، لكـن مـع ذلك لا يجـوز له أن يجـاهـر بفـطـره أمام الناس ، حـتى لا يكـون قـدوة سـيئة يــذرع بهـا الشـباب الـذين لا يـدركـون حـكـم تـلك الأعـذار .
فـحـين يـرونه يفـطـر تتـربى عـنـدهـم خـميـرة ذهـنية ، ويـعـتـقـدون أنه يجـوز لهـم الـفـطـر في شـهـر رمضان، إذن : عـليه أن يسـتر فـطـره حـتى لا تحـدث هـذه المسـألة شـكـوكا حـوله .
ولخـطـورة التجـسس قال الفـقـهـاء ، لـو أن رجـلا يعـيـش في عـشة مـن الـبـوص والعـيـدان ، وجـاء آخـر فـنـظـر إلـيه مـن خـلال الثـقـوب ، فـجـاء صاحـب العـشة بعـود فـفـقـأ عـينه لا يكـون لـعـيـنه مـقـابـل ولا تعـويـض ، لأنه اقـتحـم عـلى الأول مـنـزله ، ونظـر إلـيه دون إذنـه .
ومـثـل هـذا في سـنة رسـول الله صلى الله عـليه وسـلم ، فـعـن أبي ذر الغـفـاري رضي الله عـنه قال : قال رسـول الله صلى الله عـليه وسـلم : ( أيـما رجـل كـشـف سـترا فأدخـل بصره مـن قـبـل أن يـؤذن له فـقـد أتى حـدا ما كان له أن يأتيه ، ولـو أن رجـلا فـقـأ عـينه لهـدرت ، ولـو أن رجـلا مـر عـلى باب لا ســتـر له فـرأى عـورة أهـله فـلا خـطـئـة عـليه ، إنما الخـطـئة عـلى أهـل بيته ) أخـرجـه أحـمد في مـسنـده ( 2.591 ) .
ويـروى أن أمـير المـؤمنـين عـمـر ن الخـطاب رضي الله عـنه ، كان يـتفـقـد أحـوال رعـيته ويـقـوم بالعـس لـيـلا ، وقــد بـلـغـه أن رجـلا يشـرب الخـمـر مـع أصحـابه في بـيته ، فـتـسـور عـليه داره ، فـوجـده مـع رجـل مـن أصحـابه جـالسين ، وليـس في المجـلس خـمـر ولا شـيء مـن هـذا .
( العـس : الطــواف باللـيـل ، ومـنه حـديـث عـمـر رضي الله عـنه ، أنه كان يعــس بالمـدينة أي يطـوف باللـيـل يحـرس الناس ويكـشـف أهـل الـريبة ، والعاس الطـواف الحارس ) لسان العـرب مادة عـسس .
فـلما رآه الرجـل قال : لـقـد ظـننت بي كـذا وكـذا ، لـكـن فـاتـك مـن أمـور الـدين ما هـو أهـم مـن ذلك ، أولا : دخـلت البيت مـن السـور، والله يـقـول : { وأتـوا البـيـوت من أبوابهـا}سـورة البقـرة 189، ثانـيا : دخـلـت عـلي بـيتي بـدون اسـتئـذان ، والله يـقـول : { يا أيها الـذين آمـنـوا لا تـدخـلـوا بـيوتا غـير بـيـوتكـم حـتى تستأنـسوا وتـسلمـوا عـلى أهـلها ذلك خـير لـكـم لعـلـكـم تـذكـرون} سـورة النـور27 ، فـلما سـمـع عـمـر بن الخـطاب ذلك مـن صاحـب البـيت انصـرف راجـعـا ولم يـقـل شـيئا .
وأورد العـسـكـري في الأوائـل ( 1/2 ) أن عـمـر بن الخـطاب كان يـعـس في المـديـنـة فسـمـع صوت رجـل يغـني في بـيت فـدخـل عـليه مـن وراء البـيت فـوجـد عـنـده امـرأة وخـمـرا فـقال ما هـذا يا عــدو الله ؟ .
قال صاحـب البـيت : لا تعـجـل يا أمـير المـؤمنـين ، إن كـنـت عـصـيت الله في واحـدة فـقـد عـصيـته في ثـلاث قال الله تعالى : { يا أيهـا الـذين آمـنـوا اجـتنـوا كـثيرا من الظـن إن بعـض الظـن إثـم ولا تجـسسوا }سـورة الحجـرات 12، وقـد تجـسست ، وقال: { ولـيس البـر بأن تأتـوا البـيـوت مـن ظهـورها ولـكـن الـبر مـن اتقـى و أتـوا البـيـوت مـن أبـوابها } سـورة البقـرة 189 وقـد تسـورت ، وقـال الله تعالى : { فإذا دخـلـتـم بيـوتا فـسـلمـوا عـلى أنفـسكـم تحـية مـن عـنـد الله مـباركة طـيبة } سـورة النـور 61، وقـد دخـلـت مـن غـير سـلام ، ثـم قال عـمـر : هـل عـنـدك مـن خـير إن عـفـوت عـنـك ؟، قال الرجـل : بـلى يا أمـير المـؤمنـين ، لله عـلي إن عـفـوت ألا أعـود فـعـفا عـنـه .
وفـرق بـين التجـسس ( بالجـيم ) والتحـسس ( بالحـاء ) التحسس تـتبـع وبحـث عـن الغـير لـكـن بغـير قـصـد العــورات ومـن ذلك قـوله تعالى : { يا بني اذهـبـوا فـتحـسسـوا مـن يـوسـف وأخـيه ولا تيأسـوا مـن روح الله إنه لا يأ يئس من روح الله إلا القـوم الكـافـرون } سـورة يوسـف 87، أي ابحـثـوا عـنه حـتى تصـلـوا إليه كـما يـفـعـل رجـال المـباحـث مثـلا .
وقـوله تعالى : { ولا يغـتـب بعـضـكـم بعـضا } سـورة الحجـرات12 ، هـنا نهي عـن الغـيبة عـمـوما ، لأن القـرآن الكـريم لم يحـدد مـن يـغـتاب ومـن يـغـتاب فـيه ، وإنـما هـو خـطاب عـام يشـمـل الجـمـيـع .
ولما سـئـل رسـول الله صلى الله عـليه وسـلم عـن الغـيبة قال : ( ذكـرك أخـاك بما يـكـره وهـو غـائب ) ، فـقال السـائـل : فإن كان في أخي ما أقـول ؟ ، قال : ( إن كان فـيه ما تقـول فـقـد اغـتبته ، وإن لـم يكـن فـيه ما تقـول فـقـد بهـته ) أي افــتـريـت عـليه وكـذبـت .
أخـرجه مسـلم مـن حـديث أبي هـريـرة .

وللحـديث بقـية إن شـاء الله نـوا صله في حـلقة قـادمة ، وإلى أن نلتقي اسـتـودعـكم الله والسـلام عـليكم ورحمة الله وبركاته.

ناصر بن محمد الزيدي