[author image="https://alwatan.com/v2/v2/wp-content/themes/watan/images/opinion/mohamedabdel.jpg" alt="" class="avatar photo" height="60" width="60"]محمد عبد الصادق[/author]
” .. يخشى أي حاكم عربي الاقتراب من الخبز, ومهما تجرأ على رفع الدعم عن السلع والخدمات, ولكنه يُبقي على دعم الخبز مهما كلفه ذلك لأنه يعتبره من السلع الاستراتيجية الحساسة, والتاريخ العربي الحديث ملئ بالأمثلة على خطورة الاقتراب من هذه السلعة المتفردة. ففي عام 1977م , قامت في مصر انتفاضة هائلة بسبب تجرؤ الرئيس المصري الأسبق أنور السادات على رفع جزئي للدعم عن السلع الأساسية ومن بينها الخبز,”

لم تحظ سلعة غذائية بأهمية ومكانة رفيعة في الوجدان الإنساني كما حظي الخبز, حتى أن المصريين أسموه بالعيش وجعلوه مرادفا للحياة, واستوحوا من تجلياته عبارة "البحث عن لقمة العيش" , كما أن الخبز اقترن لسنوات طويلة بالثورات والاضطرابات الشعبية, فحين أطلت ماري أنطوانيت زوجة لويس السادس عشر آخر ملوك فرنسا في العام 1790م من شرفة قصرها الأرستقراطي لتخاطب الفقراء الذين تجمعوا للاحتجاج على غلاء الخبز, قائلة لهم:"إذا كان الخبز ليس في متناول أيديكم, فلماذا لا تأكلون البسكويت" , وكانت كلماتها المستفزة هذه نقطة النهاية للملكية في فرنسا وفتحت الباب على مصراعيه لاشتعال الثورة الفرنسية على النظام الملكي و انتهى الأمر بتعليق ماري أنطوانيت وزوجها على المقصلة في ميدان الكونكورد.
ورغم أن مكانة الخبز أو الرغيف تراجعت في أوروبا بعد ذلك بفضل الثورة الصناعية والشوط العظيم الذي قطعه الأوروبيون في التنمية والتمدين, حتى أصبحوا يأكلون قطعة اللحم "الإستيك" بالشوكة والسكين مباشرة دون وسيط ـ سواء الخبز أو الأرز أوالمعكرونة ورغم ذلك يشبعون لضخامة حجم "الإستيك" ـ ولكن المنزلة الرفيعة للعيش أو الخبز مازالت محفوظة في البلاد النامية وفي بلادنا العربية على وجه الخصوص, ولا زلنا نحتاج إليه كوسيط لتناول أنواع الطعام المختلفة؛ سواء كانت لحوما أو أسماكا أو دواجن أو حتى الخضراوات والبقول والسلاطات والمقبلات التي لا يمكن أن نتناولها مباشرة دون استخدام الخبز, بل هناك من يتناول الأرز والمكرونة مستخدما الخبز.
وأذكر في أول ذهابي إلى المدرسة الابتدائية في مطلع سبعينيات القرن الماضي وكانت محلات الكشري بدأت تنتشر وتعرف طريقها إلى مصر على استحياء, وكان أحد هذه المحلات اُفتتح حديثا على ناصية منزلنا, وكان يقدم أرخص وجبة "بقرش صاغ" بوضع كمية معتبرة من الكشري المكون من العدس والأرز والمعكرونة وعليها الصلصة والدقة داخل رغيف منتفخ ساخن, كنا نتلقفه بشوق ولهفة ونحتضنه بين أيدينا الصغيرة ونلتهمه بشهية جامحة ونحن في حالة من النشوة والسعادة البالغة غير مبالين بحالة التلبك المعوي التي من الممكن أن تصيبنا جراء هذا المزج العجيب بين أنواع من الأطعمة المتعارضة في مذاقها وتكوينها.
وربما هذا يفسر سر محافظة الأوروبيين, خصوصا الفرنسيين على أوزانهم ونحافة أجسامهم , بينما يعاني الغني والفقير في بلادنا العربية من "الكرش" والبدانة بسبب العشق المبالغ به للـ"التغميس" ورفضه استخدام الشوكة والسكين.
ويخشى أي حاكم عربي الاقتراب من الخبز, ومهما تجرأ على رفع الدعم عن السلع والخدمات, ولكنه يُبقي على دعم الخبز مهما كلفه ذلك لأنه يعتبره من السلع الاستراتيجية الحساسة, والتاريخ العربي الحديث ملئ بالأمثلة على خطورة الاقتراب من هذه السلعة المتفردة. ففي عام 1977م , قامت في مصر انتفاضة هائلة بسبب تجرؤ الرئيس المصري الأسبق أنور السادات على رفع جزئي للدعم عن السلع الأساسية ومن بينها الخبز, وعمت الاضطرابات أنحاء القاهرة والمحافظات واستقل السادات طائرته الخاصة وتوجه إلى أسوان خشية وصول المتظاهرين إلى بيته في الجيزة, وهناك طلب من وزير الحربية الفريق عبد الغني الجمسي تدخل الجيش لإخماد الثورة بعد عجز الشرطة المدنية عن السيطرة عليها, ووافق الجمسي بشرط إلغاء القرارات المتعلقة برفع الدعم عن الخبز, وأطلق السادات على هذه الأحداث "انتفاضة الحرامية" بينما سماها معارضوه الاشتراكيون وقوى اليسار "انتفاضة الخبز".
وانتقلت انتفاضة الخبز إلى المغرب في العام 1984م ,عندما خرج تلاميذ المدارس في مظاهرات غاضبة بمدن الشمال المغربية, وانضم إليهم أعداد كبيرة من العمال والفلاحين والموظفين ؛ احتجاجا على قرارات الحكومة برفع الدعم عن الخبز تنفيذا لاتفاق أبرمه المغرب آنذاك مع البنك الدولي أدى لارتفاع أسعار السلع الاستهلاكية مما أثر على تكاليف المعيشة وفرض رسوما إضافية على التعليم, في الوقت الذي عم الجفاف المغرب لسنوات متلاحقة وأثر على إنتاجه من الحبوب والمحاصيل الزراعية, واستدعى الأمر تدخل قوات الأمن لفض المظاهرات واعتقال أعداد كبيرة من المتظاهرين.
وتكرر المشهد في تونس في نفس العام 1984م في مدينة دوز بالجنوب التونسي, عندما خرجت مظاهرات عنيفة اعتراضا على زيادة أسعار "العجين" وانتقلت الاحتجاجات لمعظم المدن التونسية واستدعت الحكومة الجيش للتدخل لإخماد الانتفاضة بعد فقد الشرطة السيطرة على الوضع وسقوط قتلى وجرحى وعم الإضراب الشامل, وازدادت حدة المظاهرات التي شارك فيها الآلاف وأُحرقت كثير من المحلات والسيارات والمؤسسات الحكومية والخاصة في العاصمة تونس وضواحيها واضطرت الحكومة لإعلان حالة الطوارئ ومنع التجمعات بالطريق العام وفرضت حظرا للتجول وصاحب ذلك حملة اعتقالات على من قالت الحكومة إنهم مجرمون ومخربون , ورغم ذلك لم تتوقف الاحتجاجات إلا بعد إعلان الحبيب بورقيبة الرئيس التونسي الأسبق التراجع عن تلك القرارات , واستدعى وقتها الجنرال زين العابدين بن علي من وارسو, حيث كان يعمل سفيرا في بولندا ليسند إليه منصب مدير عام الأمن الوطني.
وفي الجزائر رفع المتظاهرون أكياس الدقيق الفارغة عوضا عن أعلام بلادهم في العام 1988م , احتجاجا على الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية وغلاء الأسعار نتيجة تدني أسعار النفط التي شهدها العالم عام 1986م , وعمت المظاهرات المدن الجزائرية الكبرى وهاجم المتظاهرون المقرات الحكومية والأمنية وأسفرت الأحداث عن مقتل وإصابة المئات وأجبرت الرئيس الجزائري حينئذٍ الشاذلي بن جديد على التعهد بالتراجع عن رفع الأسعار وتنفيذ إصلاحات سياسية واجتماعية لينقذ البلاد من دوامة العنف والاضطربات.
وكانت سوريا الدولة العربية الوحيدة التي استطاعت تحقيق الاكتفاء الذاتي من القمح قبل أحداث مارس 2011 م, بل وتحقيق فائض للتصدير وكانت تحتل المرتبة الثالثة على مستوى العالم بعد أميركا وكندا في تصدير" القمح القاسي" وهو من أغلى وأثمن أنواع القمح على مستوى العالم, ورغم ذلك طالت نار الاضطرابات البلد العربي العزيز الذي تعرض لظلم شديد وتربصت به قوى الشر التي أشعلت الفتنة بين أبنائه دون مبرر, لتتوارى سنابل القمح الذهبية خلف دخان الحرب وصور الدمار.‏