{ ولا يغـتـب بعـضـكـم بعـضا ، أيحـب أحـدكـم أن يأكل لحـم أخـيه مـيتـا فـكـرهـتـمـوه }
الحمد لله رب العـالمـين ، والصلاة والسلام عـلى رسـول الله صلى الله عـليه وسـلم سـيـد المـرسـلين وعـلى آله وأصاحـبه الـقـادة المهـتـدين ، وعـلى التابعـين لهـم بإحـسان إلى يـوم الـدين وبـعـد :
فـإن الله تعالى يحـذرنا مـن الغـيبة ، لما تثـيره الـغـيبة مـن الأضـرار في المـجـتمـع المؤمـن والقـرآن الكـريـم يـعـطـينـا صـورة حـسية للغـيبة فـيـقـول تعالى : { ولا يغـتـب بعـضـكـم بعـضا ، أيحـب أحـدكـم أن يأكل لحـم أخـيه مـيتـا فـكـرهـتـمـوه }سـورة الحجـرات 12، تأمـل أيها العـاقـل الحـريص عـلى إيـمانه كـم في هـذه الصورة مـن منـفـرات تبين فـظاعـة هـذا العـمل، فالـذي يـغـتاب أخـاه في غـيبته كالـذي يأكل لحـمه وهـو مـيت ، أي غـائب عـن الحـياة ولا يـقـدر أن يـدافـع عـن نفـسه ، ولـو كان حـاضـرا ما اسـتطـاع أن يتكلم في حـضـرته بما تـكلم فـيه في غـيبـته .
لـقـد شـبهه الله بــلك الصـورة البـشعـة الـشـنـيعـة التي تـنفـر منها النفـس السـوية ، وقالـوا : إن سـبب نـزول هـذه الآيـة أنها نـزلـت في الـولـيـد بن عـقـبة أبن أبي معـيط ، حـينما بـعـثه رسـول الله صلى الله عـليه وسـلم لجـمع أمـوال الـزكاة مـن بني المصطـلـق ، وكان عـليه لهـم دية في الجـاهـلية ، فـلما رأوه خـرجـوا لمقـابلـته ، فـخـاف منهـم الـثأر وعـاد إلى رسـول الله، وقال : إنهـم امـتـنـعـوا عـن دفـع الـزكاة .
وروي أن أسامـة بن زيـد بن حـارثة الكـلبي كان الـقـائـم عـلى مـؤنـة الـطـعـام في بـيـت رسـول الله صلى الله عـليه وسـلم ، فـأراد رجـلان أن يـذهـبا لـكـي يـطـعـما في بيـت رسـول الله ، فـبعـثـوا سـلمان الفـارسي ليسأل أسـامـة بن زيـد الطـعـام ، فـلما سـأله قال : لـيـس عــنـدنــا طـعـام، فـعـاد إليهـما سـلمان وقال : يـقـول أسامة ليـس عـنـدنا طـعـام ، قـالا : بـل عـنـده لكـنـه بخـل به، ثـم قالا لـسلمان : أنـت وجهـك وجـه شـؤم، ولـو ذهـبت إلى بـئر سـميحـة يعـني فـوارا ــ لـغـار مـاؤه .
وهـكـذا اغـتابـوا أسـامة وسـلمان ، فـلما رآهـما رسـول الله صلى الله عـليه وسـلم قال : ( إني لأشـم مـن أفـواهـكـم ريح لحـم نـتـن ) قالا : يا سـول الله والله ما أكلـنا لحـما، قال : ( لـقـد اغـتبتمـا أسـامة وسـلمان، اذهـبا فارضـوهـما ) لأنـك إن لـم تـرض المغـتاب فـستـكـون عـنـد الله أقـبح من الـزاني.
نص الحـديث : أخـرج ابن أبي حـاتـم عـن الـسـدي أن سـلما ن الفارسـي كان مـع رجـلين في سـفـر يخـدمهـما ويـنال من طـعـامهـما ، وأن سـلمان نام يـوما فـطـلبه صـاحـباه فـلم يجـداه فـضـربا الخـباء وقالا ما يـريـد سـلمان شـيئـا غـير أن يجـيء إلى طـعـام مـعـدود وخـبـاء مضـروب ، فـلما جـاء سـلمان أرسـلاه إلى رسـول الله صلى الله عـليه وسـلم يطـلب لهـم إدامـا فانطـلـق فاتـاه فـقال : يا رسـول الله بعـثـني أصحابي لتـؤد مهـم إن كان عــنـدك ، قال : ( ما يصـنـع أصحابـك بالأدم فـقـد إئتـد مـوا ؟ ، فـرجـع سـلمان فـأخـبرهـما فانـطـلـقا فأتـيا رسـول الله صلى الله عـليه وسـلم ، فـقالا : والـذي بعـثـك بالحـق ما أصـبنا طـعـاما مـنـذ نـزلنا ، قال : ( أنـكما قـد إئـتـد متما سـلمان بـقـولكما فـنـزلت الآيـة الكـريمـة : { أيحـب أحـدكم أن يأكـل لحـم أخيـه مـيتـا } سـورة الحجـرات12 نقـله السيوطي في الـدر المنـثـور ( تفسير الآية ) .
ولـذلـك لـما اغـتاب رجـل ابن سـيرين محمد بن سـيرين البصـري الأنصـاري بالـولاء ، فجـاءه وقال له : يا إمام أحـل نفـسي مـنـك ، فـقال : لـم ؟ ، قال : لأني اغـتبتـك ، فـقال ابن سـيرين أنا لا أحـل ما حـرم الله .
والحسن البصري عـلم أن رجـلا اغـتابه ، فأرسـل إليه خادمه بطـبـق مـن الـرطـب ، وكان ذلك وقـت ابـتداء مـوسـم الـرطـب، وقال له : قـل له هـذا هـدية لـك مـن سـيـدي الـذي اغـتبـته، لأنه عـلم أنـك أهـديت إليه حسناتك بالأمس.أوردهـذا الخـبر أبو حـامـد الإمام الغـزالي في كتابه ( إحـياء عـلـوم الـدين 2/247) ،أن رجـلا قال للحسن البـصري : إن فـلانا قـد اغـتابـك فـبعـث إليه رطـبا عـلى طـبـق وقال : قـد بلغـني أنـك أهـديت إلي مـن حـسناتـك ، فأردت أن أكـفـئـك عـليها فاعـذرني فإني لا أقـدر أن أكـافـئك عـلى التمام.
هـذا يــدل عـلى أنـك تـدفـع حـق مـن اغـتبتـه مـن حـسناتـك ، فإن لم تـكـن لك حـسنات أخـذ مـن سـيئاته فـطـرح عـليـك ، وقـد دل عـلى ذلك الحـديث النبـوي الشـريـف ، نص الحـديث : عـن أنس بن مالك قال : قال .رسـول الله صلى الله عـليه وسـلم : ( رحـم الله عـبـدا كانت لأخـيه عـنـده مظـلمة في نفـس أو مال ، فاتاه فاسـتحـله قـبـل يـوم القـيامة ، فإنه ليس ثـم دينار ولا درهـم ، إنما هي الحـسنات) قـيـل : يا رسـول الله فإن لـم يـكـن له حسـنات ؟ قال : ( أخـذ مـن سيـئاته فـوضـع في سـيئاته ) أخـرجـه الطـبراني في المعجـم الأوســط (5316) .
وقال تعالى : { واتقـوا الله إن الله تـواب رحيـم }سـورة الحجـرات 12، اتقـوا الله فـيما أمـركـم به وفـيما نهاكـم عـنه ، وتجـنـبـوا أسـباب عـقـابه { إن الله تـواب رحـيم } أي كـثـير التـوبة عـلى مـن تاب وكـثير الـرحـمة عـلى مـن أناب .
وفي هـذا الخـتام يعـطي العـاصي الأمـل في رحـمة الله ، ولا يقـنـط ولا يأيئس مـن رحـمة الله المغـتابـون ، فـمـن زل لـسانه بالغـيبة فـليبادر بالتـوبة ، وإذا عـلم أن ربه تـواب رحـيـم عـاد مـن قـريـب أي رجـع إلى الله ولا يستمـريء هـذه الفـعـلـة ولا يتمـادى فـيها .
وسـبـق أن أوضحـنا أن مـن أعـظـم نعـم الله عـلينا أن شـرع لنا التـوبة ، وفــح لنا باب القـبـول ، وإلا تـمـادى العـاصـون وفـسـدت الحـياة .
قال الله تعالى : { يا أيها الـناس إنـا خـلقـناكـم مـن ذكـر وأنـثى وجـعـلناكـم شـعـوبا وقـبائـل لتعـارفـوا إن أكـرمـكـم عـنـد أتقـاكـم إن الله عـليم خـبير }سـورة الحجـرات 13 .سـبب نـزول الآية قال ابن عـاس رضي الله عـنهـما ، نـزلت في ثابت بن قـيس وقـوله في الـرجـل الـذي لم يفـسـح له ابن فـلانـة ، فـقال رسـول الله صلى الله عـليه وسـلم : ( مـن الـذاكـر فـلانـة ) فـقام ثابت فـقال : أنا يا رسـول الله ، قال : ( فانـظـر في وجـوه القـوم ) فـنـظـر فـقال : ( ما رأيت يا ثابت ) ؟ فـقال ثابـت : رأيـت أبيض وأحـمـر وأسـود ، قال : ( فإنك لا تفـضلهـم إلا في الـدين والـتـقـوى ) ، فأنـزل الله تعالى هـذه الآيـة أورده الـواحـدي النيسابوري في أسباب النـزول ص (224) .
تلاحـظ أن النـداءات السابقة كانت بيا أيها الـذين آمنـوا ، لأنها تـوجـيهات وتشـريـعـات خاصة بالـذين آمـنـوا ، لأن الله تعالى لا يـكلـف إلا مـن آمـن به .
أما النـداء هـنا فـنـداء عـام للناس جـميعـا يلـفـت أنـظارنا إلى آيـة الخـلـق ، وإلى عـظـمة الخـالـق سـبحانه وتعالى ، وهـذه الآية تـشـمـل الجـمـيع ، فالخـالـق سـبحانه وتعـالى خـلـق المـؤمـن والكـافـر، والـذكـر والأنثى ، هـما أصـل هـذا الخـلـق ، فالـذكـر وحـده لا يتـنـاسـل ، وكـذلك الأنـثى وحـدها لا تـتـنـاســل .
أما قـوله تعالى : { الـذي أحـسن كل شـيء خـلـقـه وبــدأ خـلـق الإنسان مـن طـين ، ثـم جـعـل نسله مـن سـلالة مـن مـاء مهـيـن }سـورة السجـدة 7/8 ، فهـذا خـاص بالخـلـق الأول ، وهـو آدم عـليه السـلام ، حـيث خـلقـه وصـوره بيـديـه ، وكل شـيء في الكـون مـقـدور بـقـول تعالى ( كـن فـيـكـون ) .
لـذلك قال الله تعالى لإبـليـس : { ما منعـك أن تسـجـد لما خـلـقـت بـيـدي } سورة ( ص ) 75 ، يعـني : كـيـف لا تسـجـد لشيء أنا خـلـقـته بـيـدي ، إذن : أنـت لا تسـجـد لآدم إنمـا تـسجـد طـاعـة لمـن خـلـق آدم وقـد امـرك بالسـجـود .
وبـعـد أن خـلـق الله آدم مـن طـين جـعـل ذريـته مـن بـعـده : { مـن سـلالة مـن مـاء مهـين } سـورة السـجـدة 8 ، فـهـذا يقـتضي الـزوجـية بين الـذكـر والأنثى .
وقال الله تعالى : { يا أيها الناس اتقـوا ربـكـم الـذين خـلـقـكـم مـن نفـس واحـدة } سـورة النساء 1 ( أي آدم عـليه السلام ) و { خـلـق منها زوجها } الآية 1، يعـني حـواء ، إذن : حـينما يـقـول الله الله سـبحانه وتعالى : { مـن ذكـر وأنثى }سـورة الحـجـرات 13 لا يعـني بـداية الخـلـق ، إنما النـسـل الـذي جـاء بعـد الخـلـق الأول آدم وحـواء .
لـذلك قال الله تعالى : { وبـث منهـما رجـالا كـثيرا ونساء }سـورة النساء 1، فأولـئـك الرجـال والنساء تفـرقـوا في أنحـاء الأرض وصـاروا : { شـعـوبا وقـبائـل } الحجـرات 13 ، فالعـرب شـعـب ، والـروم شــعـب ، والفـرس شـعـب ، ثم انقـسمت الشـعـوب إلى قـبائـل ، والقـبائـل إلى بطـون ، والبطـون إلى أفخـاذ وهــكـذا .
وفي داخـل الأسـرة الـواحـدة تخـتـلـف الأسـمـاء، لأننا لا نــرك الأشـخـاص بـدون أسماء ليـتم التعـارف ، فهـذا محمد وهـذا أحـمد ، وهـذا فاطـمة وهـذا عـائشـة ، والحـكـمة مـن ذلك هـي : { لـتعـارفـوا }عـلى مسـتـوى الأفـراد وعـلى مسـتـوى الشـعـوب .
والتعـارف أمـر ضـروري بـين البـشـر ، لأن مصالحهـم في أن يتعـارفـوا ، وسـوف تضـطـرهـم ظـروف الحياة لهـذا التعـارف ، حـيـث سـيحـتاج بعـضهـم إلى بعـض .
وللحـديث بقـية إن شـاء الله نـوا صله في حـلقة قـادمة ، وإلى أن نلتقي اسـتـودعـكم الله والسـلام عـليكم ورحمة الله وبركاته.