عرفت مصر طريق السينما في وقت متزامن مع بدء ظهورها عالميا، حيث كانت أولى تجارب العروض السينمائية في مصر بمدينة الاسكندرية في يناير من العام 1896، بالتحديد في مقهى زواني، فيما تبعه أول عرض شهدته حديقة الأزبكية بالعاصمة القاهرة، وتلاهما عرض بمدينة بورسعيد، وجاء ذلك بعد أيام قليلة من أولى العروض السينمائية العالمية في باريس من شهر ديسمبر عام 1895.
منذ هذا التاريخ وحتى يومنا هذا، انتزعت السينما المصرية صدارة الانتاج السينمائي لدول الشرق الاوسط بجدارة، عبر مجموعة ضخمة من الاعمال السينمائية المتنوعة بين التراجيديا والكوميديا والدراما والاكشن وغيرها، التي تخطت الـ4 آلاف فيلم.
التاريخ والأدب العربي يحملان لنا تراثا شعبيا وحكايات عديدة بالغة الثراء، خصوصا المصري منهما، لكن تلك المادة الخام التي تصلح لصنع أعمال فنية لا حصر لها لم تُستغل، ولم يجعل القائمون على هذا المجال موضعا لها داخل صناعتهم، رغم حضورها القوي في أغلب الاعمال الهوليوودية، كحكايات الفراعنة والمومياوات على سبيل المثال، الأمر الذي يعد قصورا منهم حيث انتهجوا الاستسهال والاسترخاص، واعتمدوا على المشاهد المبتذلة ذات الطابع التجارى "السينما المعلبة"، في اتجاه أدى لضياع السينما المصرية لعقود كثيرة.
الا إنه منذ بداية العام المنصرم، برزت صناعة مغايرة عن ذلك التلوث البصري والفكري الذي أصبح رمزا للسينما المصرية في الاعوام الأخيرة، إتجاه جديد يعيد للسينما المصرية الروح والحياة، أشكال فنية جديدة تمزج التاريخ بالأسطورة، يدفع من خلالها بأفكار ورسائل أصبح من الصعب تقديمها مباشرة الى المشاهد، كالعمل الذي أمامنا اليوم والذي طال انتظاره كثيرا.
الكنز (الحقيقة والخيال) ـ الجزء الاول: فيلم درامي من تأليف عبد الرحيم كمال الذي برز إسمه مؤخرا بعد نجاحه في تقديم أعمال درامية لاقت اعجاب واشادة جماهيرية واسعة، فمن منا لم يلامس "الخواجة عبد القادر" روحه، أو يوسوس "ونوس" له.
مخرج الفيلم المبدع شريف عرفة، صاحب البصمة المميزة والرؤية الخاصة في تاريخ السينما المصرية، وبفضلها تم اكتشاف العديد من المواهب المبتدئة الناجحة.
ضمت قائمة أعماله عددا من الافلام الناجحة التي خلدت في مهرجانات كثيرة، كـ"الارهاب والكباب"،"طيور الظلام"، "الجزيرة" بجزئيه، "اضحك الصورة تطلع حلوة" و"الناظر" وغيرها..
السينما الأصيلة لا تزال حاضرة، هو الرهان الحقيقي للعمل الذي تمكن صانعوه من الفوز به، فقد عرفوا كيفية مزج عناصره بنجاح، عبر مونتاج محكم دمج 3 أزمنة بحكايات مختلفة، تحاول جميعها أن تطرح فكرة واحدة دون أن يشعر المشاهد بالتشتت، فتنقلت الأحداث بسلاسة، وربطت بمشاهد للبطل الصغير وهو يتابع الحكايات ويحاول تكوين خيط منها يصل من خلاله الى كنزه.
سيناريو ذو تفاصيل مثيرة ولغة حوار قوية، عبر مشاهد تخللتها إستعراضات غنائية ممتعة مصاحبة لأشكال موسيقية متنوعة لهشام نزيه، جاءت داعمة ومكملة لحبكة العمل. إشادة وتحية خاصة لإختيار الشيخ إيهاب يونس الذي أطربنا جميعا صوته. ولا ننسى أيضا اداء المطربة نسمة محجوب بصوتها العذب.
تفاصيل مثيرة، ديكورات ومكياج جاءت متناسقة مع أجواء كل عصر من العصور، بداية من المعابد الفرعونية وقرية الجرنة بالاقصر الواقعة على الضفة الغربية لنهر النيل، مرورا الى مصر القديمة وأسواقها وأحيائها العريقة بمبانيها ذات الطابع المعماري العثماني، وصولا الى عصر الملك فاروق و بوليسه السياسي، والطرابيش والازياء الانيقة التي تميزت بها تلك الحقبة. لم تعجبني كثيرا جودة تصميم المعارك ومشاهد الاكشن، فمن المفترض أن يتم تقديمها بشكل مقنع عن الذي شاهدناه، نتمنى ان يتم الاهتمام بها في الجزء الثاني من العمل.
عن الاداء التمثيلي، فإنه جاء مفاجئأ للجميع، فمحمد سعد قرر أخيرا أن يرتدي ثوبه الحقيقي الذي راهن البعض عليه، فهو للأسف حصر موهبته التمثيلية في أدوار خانقة مكررة لسنوات طويلة، سنشاهده يؤدي دور "بشر باشا" رئيس البوليس السياسي في فترة حكم الملك فاروق، في اداء قوي لافت وحضور مميز، و"كيمياء" غريبة لم نشاهدها من قبل بينه وبين الممثل أحمد رزق الذي يقوم بدور "عبد العزيز النشار" مدير مكتب بشر.
الاسطورة محمد رمضان يقوم بدور عمره، حيث يجسد الشاطر "علي زيبق" في أداء مقنع اجتهد فيه كثيرا، متحديا الصعوبات الجسدية والفيسيولوجية حول صدق علاقته مع حبيبته "زينب" وإبنة عدوه وقاتل أبيه التي قامت بدورها الفنانة روبي.
تشاركهم البطولة الفنانة هند صبري وتقوم بدور "حتشبسوت" أعظم ملكات التاريخ التي حكمت مصر، في تجسيد جيد، لكنه ابتعد عن المستوى في مشاهد القتال، أيضا المبدع محي إسماعيل يقوم بدور كبير الكهنة في عهدها، والمتألق عبد العزيز مخيون، الذي جاء رمزا للحكمة والموعظة والرؤيا السديدة، فهو معلم حتشبسوت، وحارس بوابة الزيبق، وهو البواب المسجون فى عهد فاروق ورئيس بوليسه بشر.
وأخيرا وليس اخر الممثل الشاب أحمد حاتم في دور" حسن بشر".
وبرغم بعض الاداءات التمثيلية التي لم تكن موفقة وجاءت دون المستوى، كعباس أبو الحسن " المقدم صلاح الكلبي"، أمينة خليل " المطربة نعمات"، وهاني عادل" المهندس المعماري وعشيق حتشبسوت في السر"سننموت"، الا أن اختيار كاست التمثيل كان من أحسن الاختيارات، وذلك تحت إدارة ناجحة متقنة من شريف عرفة.
...................................
أحداث

تنطلق الاحداث من عند الشاب المصري حسن، ذي الأصول الصعيدية، حين يقرر في عام 1975 العودة لبلده، حيث كان يدرس في إحدى الدول الأوروبية علوم المصريات تنفيذا لرغبة والده بشر باشا، الذي يرسله بعيدا عن الوطن خوفا عليه من "ثأر ولاد العاصي".
يصل حسن لمنزل عائلته بمحافظة الأقصر، حيث يستقبله العم قادم خادم والده والمسؤول عن ادارة المنزل، ليخبره أن عمه مصطفى يحتضر على فراش الموت، وبعد وفاته يقرر الشاب الرحيل مجددا لكن بعد أن يتمم بيع ميراثه عن والده، الذي ترك وصيته مسجلة على عدد من شرائط الفيديو يحكي فيها تفاصيل وأسرار حياته الذي يجهلها حسن، بالاضافة لمجموعة من البرديات النادرة لعصر الملكة الفرعونية حتشبسوت، ومخطوطة قديمة تضم حكاية الشاطر على الزيبق، تؤدي جميعها بعد "قراءتها وفهمها جيدا" الى "الكنز" الذي تركه والده له.

...................................

حتشبسوت
يبدأ الخط الأول من العمل، في عصر الفراعنة، في وقت يشتد فيه الصراع على وريث تحتمس الاول في الحكم، الذي لم ينجب من أم شرعية سوى حتشبسوت، الامر الذي يشعل خلافا داخل الاوساط الدينية "كهنة أمون رع".
تمر الأحداث وتتمكن "أميز النساء" كما لقبتها تلك البرديات، من تولي مقاليد الحكم بعد اتفاق على زواجها من اخيها غير الشرعي تحتمس الثالث، لكنه يبقى أداة في يد زوجته التي تمسك بزمام الأمور، وتسيطر على صناعة جميع القرارات.
نتابع في نهاية القصة أنها تتمكن من إحباط انقلاب عليها من قبل كهنة المعبد، وذلك بمعاونة عشيقها في السر ومهندسها المعماري سننموت.

علي الزيبق
خط الكنز الثاني خاص بالتراث الشعبي، وهي قصة على الزيبق والشطار التي يعلمها معظمنا، والتي تبدأ في عصر الدولة العثمانية، حين يقرر حسن رأس الغول وفريقه من الشطار، محاربة فساد الخليفة وأعوانه، لكنه لا يتمكن من اتمام مهمته بعد ان يغتاله احد رجال صلاح الكلبي مقدم درك الدولة، ليأتي ابنه علي الزيبق وينضم الى الشطار في مسعى لاستكمال مشوار والده والانتقام ممن قتلوه.
يقع علي في غرام زينب إبنة الكلبي اثناء تجولها بأحد اسواق القاهرة القديمة، ويبقى اختياره صعبا حينما يعلم بالحقيقة، وبعد القبض عليه يساومه الكلبي على الكنز ـ الذي لا نعلم تفاصيله حتى نهاية الجزء الاول من العمل، بإستثناء انه يقع أسفل منزل علي الزيبق بالاقصر والذي تربى فيه بعد هروبه من دمشق مع والدته ـ وذلك في مقابل زواجه من ابنته والعفو عنه، الا أن علي يرفض ذلك فيحكم عليه بالاعدام لكن يتم إنقاذه من زملائه الشطار.

بشر باشا
يعتبر الخط الثالث هو الافضل، ويحكي قصة اعتلاء بشر كرسي رئيس البوليس السري في عهد الملك فاروق، ورغبته في المحافظة على المنصب بكل الطرق والوسائل الممكنة، حتى ولو كان على حساب اخيه مصطفى الذي يزج به في السجن لإدمانه المخدرات، حتى يتجه الى طريق اخرى داخل محبسه.
حبه من نعمات مغنية "الكباريهات"هي نقطة ضعفه، فيلجأ لإستخدام سلطته لتملكها، لكنه لم يتمكن من الاستحواذ على قلبها، فهي لم تبادله هذا الشعور وكانت تنظر اليه نظرة الرجل صاحب الأيدي البيضاء والقلب الحنون، لكنها توافق على طلبه بالزواج وتشترط الغناء للمرة الاخيرة، حيث سيتم إصابتها بتفجير يستهدف الكباريه الذي تعمل به.
تتمة الحكايات سنتابعها في الجزء الثاني من العمل، سنرى كيف اشترى بشر منزله في الاقصر، بعد تكليفه من الملك بالقبض على "خُط" الصعيد.

الكنز .. صنعة فنية قيمة، رحلة عبر 3 عصور تعبر بنا خارج حصار سينمائي "ضقنا به ذرعا"، يكاد يرقى الى مرتبة الاعمال "الملحمية" الفنية، كونه يمزج بين النكهات التراثية الشعبية، التاريخية الفرعونية وعصر مصر الحديث.
عن الحب والحياة، وعلاقة الدين بالسياسة، وصراعي الحق والباطل، السلطة والشعب، في خليط فني محكم يأسر المشاهد منذ لحظاته الاولى حتى تتر نهايته.
ربما يكون مقتبسا من فيلم " Cloud Atlas " أو سحابة أطلس لتوم هانكس، لكنه تجربة ممتعة ومبهجة، لعلها تكون حافزا لإطلاق صورة جديدة للسينما المصرية وتشجع صناع آخرين على خوض غمارها.

رؤية : طارق علي سرحان
[email protected]