[author image="https://alwatan.com/v2/v2/wp-content/themes/watan/images/opinion/suodalharthy.jpg" alt="" class="avatar photo" height="60" width="60"]سعود بن علي الحارثي[/author]
” .. على كل إنسان أن يعد برنامجه بإتقان وأن يراجعه بصفة دائمة فيضمنه التزاماته الأساسية وحقوقه المساءل عنها وبما يحقق له التوازن والراحة النفسية والوفاء للعلاقة بشكل متكافئ مع جميع الأطراف الرئيسية في الحياة، ففي برنامجه الكثير من الوقت المهدر يذهب سدى في الشكليات والمظاهر التي يجب التخلص منها والتفكير في الغيبيات من أجل مستقبل مجهول ومتابعة وسائل التواصل والمشاركة فيها بشكل مبالغ فيه...”
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
تصور بأن ساعات اليوم العادية المتعارف عليها منذ ملايين السنين وفقا لحسابات الليل والنهار، وتناسبا مع متطلبات الإنسان واحتياجاته الجسمية والروحية والمعيشية والترفيهية والتزاماته الاجتماعية، أصبحت غير كافية أو غير مواتية لهذا العصر بتعقيداته ووسائله وصيغه وبرامجه وساعات عمله، وما يترتب عليها من مسئوليات والتزامات ومتاعب وإغراءات تتمثل أولا : في ساعات العمل الطويلة والاجتماعات اليومية ومهمات السفر الرسمية والزيارات الميدانية والتكليفات المتواصلة والمشاركة في حضور الدورات والندوات التدريبية والتأهيلية التي تفرض نفسها لتطوير المهارات وتعزيز الكفاءة، والاطلاع على التطورات العلمية والأحداث والمستجدات المحلية والاقليمية والعالمية المرتبطة بمهام وواجبات الوظيفة والتخصص العلمي واشتراطات الترقي والتطور، وإلا فإن الحياة الحديثة ومراهنات العصر وتحدياته وتطوراته العلمية الهائلة لا ترحم، ومن يتوقف قليلا أو يتكاسل أو يجبن عن المنافسة وتطوير نفسه فإنه سيظل قابعا خلف الصفوف يرى الآخرين يتجاوزونه مسرعين إلى المستقبل، إنها الثقافة الجديدة للعمل تنهك الإنسان وتستهلك وقته وجهده وتفكيره وتأخذ جل التزاماته اليومية. ثانيا: العلاقات الأسرية والاجتماعية التي اتسعت وتطورت وتشابكت بشكل واسع وكبير، فأصبح للإنسان شبكة من العلاقات مع أصدقاء الدراسة وزملاء العمل والجيران الجدد والقدامى وجماعة المسجد وأعضاء مجموعاته في وسائل التواصل الاجتماعي , ومن يلتقي بهم في كل مكان يحل فيه، فيتلقى منهم عشرات الاتصالات والرسائل والدعوات والأخبار المرتبطة بهم التي تحتاج إلى معاودة الاتصال والرد على الرسائل وإجابة الدعوة أو الاعتذار وتأدية واجب العزاء ومشاركاتهم مناسباتهم الاجتماعية ولقاءاتهم الدورية، هذا إلى جانب أفراد عائلته وأسرته الوالدين والاخوة والاخوات والأبناء والأعمام وأبناء الأعمام ... الذين يتوجب زيارتهم كل يوم أو أسبوع أو في الشهر مرة على حسب درجة القرابة، وعيادة مرضاهم وحضور مناسباتهم بشكل ملزم والمساهمة في علاج مشاكلهم وتعزيز دوره الاجتماعي معهم، ففي السابق كانت الأسرة بكامل أفرادها والأصدقاء الخلص ومن يدخلون ضمن العلاقات المحدودة يسكنون في منزل واحد أو في ذات الحارة أو القرية يلتقون في المسجد والسوق والسبلة وفي الوجبات اليومية افطارا وغداء وعشاء ... أما اليوم وبسبب ظروف الحياة والعمل والتنقل أحيانا من مؤسسة إلى أخرى ومن منطقة سكنية في مرحلة سابقة إلى جديدة في مرحلة لاحقة واتساع ارتباطات الانسان بأكثر من مجال عمل وعلى ضوء التغير في أنماط الثقافة والتطور الذي حدث في كل شأن من شئون الانسان خاصة في شبكات النقل والاتصالات فقد تباعدت دور السكن ويحتاج الفرد لساعات أحيانا لزيارة والده مما صعب من مسئوليات الحياة الراهنة. ثالثا: وسائل التواصل الحديثة والتقنيات المتطورة التي أقحمت نفسها بشكل مفاجئ على الإنسان فانتهكت خصوصيته وأثرت على صحته وأقلقت راحته وأضافت عليه أعباء أخرى جديدة، فعبر هذه الوسائل يتلقى خلال ساعات قليلة مئات الرسائل والصور والمشاركات والأخبار والمعلومات والمقاطع والتنبيهات والدعايات والمطالبات التي تحتاج إلى ردود ومشاركة وقراءة بحكم التخصص والمسئولية وحب المتابعة والتعرف على ما يدور من أخبار ومستجدات أو مجاملة أو تطفلا، كما أنها باتت ضرورية وأساسية للكثيرين ووسيلة من وسائل إنجاز العمل بل وربطت كمؤشر على الحكم على أمية الإنسان أو علمه وثقافته باعتبارها مجالا خصبا للترويج والتسويق التجاري، للبحث عن معلومات وبيانات يحتاجها الأفراد، للتسوق، مصدرا مهما للأبحاث والدراسات والأعمال الكتابية، ساحة ثقافية للمشاركة بالأعمال والابداعات المرتبطة بها والتحاور بين الفئات وشرائح المجتمع، لمتابعة الأخبار والتطورات العلمية ... بمعنى أنها أصبحت من ضرورات الحياة التي لا يستغنى عنها الإنسان فاستقطعت جزءا كبيرا من وقته وبرنامجه اليومي.
رابعا: الانفتاح الهائل الذي حدث خلال السنوات القليلة الماضية على المجتمعات والثقافات الاخرى بسبب التقدم الواسع في شبكات النقل والاتصالات غير كثيرا في تركيبة وبنية المجتمع ونمط تفكير أفراده فتسارعت الخطى وتضاعفت وتيرة العمل وأصبح الفرد يستهلك الكثير من الوقت والجهد في التفكير في وظيفته ودخله وممتلكاته وأعماله ومشاريعه الخاصة ويقارن بينه وبين الآخرين الذين تمكنوا من تكوين ثروة أو قيادة مشروع ناجح او بلوغ منصب كبير ... وهي أصبحت معيارا لنجاح الانسان في هذا الزمان بغض النظر عن الأدوات والوسائل المقررة والمتبعة لبلوغ هذا النجاح، وكثيرا ما يمضي يتساءل في قرارة نفسه كيف له أن يصل إلى ما وصلوا اليه لضمان مستقبل أفضل ومعيشة مزدهرة، فالتخطيط والتفكير للمستقبل وبنائه والاعداد له والاستثمار فيه والادخار من أجله بات هاجس الكثيرين يقض مضجعهم ويقلق راحتهم، هذا جانب ومن جانب آخر فإن الثقافة الجديدة غيرت الحياة وقلبتها رأسا على عقب فبدلت الاولويات وخيمت ثقافة المظاهر والمباهاة والتقليد والبهرجة الاعلامية والوجاهة في الاستهلاك والتسوق والمسكن والملبس والسفر إلى الخارج وفي الشغف بالمؤهلات الدراسية والمناصب، وأشغل الانسان نفسه كثيرا في قضايا وجوانب شكلية استهلكت الكثير من الوقت والجهد والمال على حساب مسئولياته وعلاقاته الإنسانية ومتطلبات حياته الاخرى، لذلك تعقدت الحياة وتشتت فكر الإنسان ووقته وبات يمارس جهودا فوق الطاقة وانتشرت الأمراض النفسية وحالات القلق على حساب الراحة النفسية والبساطة والهدوء وتجاهل احتياجات الجسد الحقيقية. على ضوء هذا الواقع الذي نعايشه وانجرافات الحياة الهائلة التي تجذب الناس إليها طوعا دون وعي أو شعور أحيانا للمتغيرات التي أشرنا إليها، والتي أفسدت حياة الإنسان وجردته من كثير من إنسانيته، وأفضت إلى تراجع المبادئ في الفكر والثقافة والأخلاق والقيم الروحية والإنسانية بات الإنسان غير قادر على الوفاء بالتزاماته ومسئولياته الأساسية عاجزا عن القيام بالحقوق تجاه أقرب الناس إليه وظهر محتارا في تنظيم الأولويات المتخلفة منها أو الناشئة التي تتراجع بنود برامج البعض منها أحيانا وتتقدم في أحيان أخرى، وتفكير يلازمه وسؤال متواصل يلاحقه في كيفية إيجاد أو استقطاع الوقت المطلوب لتنفيذ تلك البرامج اليومية وتوزيعها بشكل عادل، وترتيب أوراقه التي تتزاحم في مخيلته وتغزر بشكل كبير في مفكرته اليومية، فاختلت بذلك التزاحم والتراكم أساسات التوازن المبنية عليها حياة الإنسان في حقه لصحته وأسرته ووطنه وراحته وعبادته وسعادته، والتي تحكم عليه الأمانة والمسئولية أن يؤديها على أكمل وجه فيعطي لكل ذي حق حقه ... فحق القريب المريض منذ زمن، زيارته في المستشفى للاطمئنان عليه، وحق الصديق، تقديم واجب العزاء في وفاة والده، وحق الوالدين، زيارتهم بشكل يومي للاطمئنان عليهم ومساعدتهم فيما يحتاجون له من مساعدة، وحق الأسرة تخصيص وقت من اليوم للجلوس معهم ومشاركتهم سعادتهم والترفيه عنهم ومعالجة مشاكلهم والاطمئنان على نتائج الأبناء الدراسية وتوجيهم وتربيتهم التربية الصالحة، وحق الخالق عز وجل السمع والطاعة المطلقة لأوامره وأداء الفرائض والالتزام بما أقره سبحانه من واجبات وسنن وحقوق، وحق الحياة القيام بمسئوليات العمل والأمانة والإخلاص للوظيفة، وحق النفس المحافظة عليها من الانحرافات والأهواء وتقييم وتقويم سلوكها وأعمالها بشكل يومي والترفيه عنها، وحق العقل، مواصلة التعلم والقراءة والتثقيف والاحتكام إليه في اتخاذ القرارات، وحق الجسم، المحافظة عليه من الأسقام بممارسة الرياضة والاتزان في تناول الطعام والكفاية من النوم ...
إن الضغوط والتحديات والمغريات والمؤثرات التي يواجهها الإنسان كثيرة، وازدحام برنامج عمله اليومي مليء بالتفاصيل الدقيقة والمسئوليات والمعاملات والإجراءات، التي تعمل على نهش ساعاته اليومية دون أن يشعر وخلط أوراقه وإرباكه وإنهاكه وتشتيت أفكاره، على حساب سعادته وصحته ومسئولياته الحقيقية وجماليات الحياة التي تدعونا إلى التدبر والتفكر والاستمتاع بتلك الجماليات والتعبير عنها بصيغ متعددة، وعلى حساب المبادئ الإنسانية وعلى حساب البساطة والقيم والأخلاق والتوازن التي يفترض أن تتسم بها حياته، على ضوء هذا الواقع فعلى كل إنسان أن يعد برنامجه بإتقان وأن يراجعه بصفة دائمة فيضمنه التزاماته الأساسية وحقوقه المساءل عنها وبما يحقق له التوازن والراحة النفسية والوفاء للعلاقة بشكل متكافئ مع جميع الأطراف الرئيسية في الحياة، ففي برنامجه الكثير من الوقت المهدر يذهب سدى في الشكليات والمظاهر التي يجب التخلص منها والتفكير في الغيبيات من أجل مستقبل مجهول ومتابعة وسائل التواصل والمشاركة فيها بشكل مبالغ فيه وإعطاء بعض الجوانب والموضوعات والقضايا وقتا وجهدا وتفكيرا أكثر بكثير مما تستحقه، إن الإنسان قادر بالتصميم والإرادة والتركيز والأخذ بمبدأ الواقعية والحكمة أن يعيد إلى حياته ألقها وجمالها وبساطتها وتنظيم أولوياتها وفق برنامج دقيق يراعي كل جوانب العلاقة ويوازن في المصالح، وبدون أن يفرط في الحقوق الأساسية .

[email protected]