الزواج.. ذاكرة النسق وجدلية التحول
بعض الممارسات المجتمعية، بحكم أنها نسق متكرر في المكان، تم إدخالها - بحكم التكرار - في منظومة العادة والتقليد، وهو تصنيف منطقي وقارّ، ولكن لم نضع هذا القارّ في قالب يخضع للدراسة والبحث من أوجه مختلفة من منظور ثقافي ذي صلة مباشرة بالتكوين الفردي والجمعي في المكان الواحد، ولذلك ربما سيسود بعض الاستغراب من كون ثيمة الزواج هي واحدة من الأركان التي نشعر بضرورة النظر إليها من زاوية النقد الثقافي، باعتبار أن التلقين والاعتياد واللاوعي الجمعي هو ما يضفي طابعه على شخصية السلوك المنعكسة عن المكان في الزمن الذي يتم تداول هذه الثيمة أو تلك عنه.

غالب ما عنّ للرصد الفلكلوري لثيمة الزواج هو الدفع بالسلوك المظهري له في خانة ما سبق زمانيا، وبخاصة في الطقوس والتفاعلات العامة، من دون خوض في ما خلف ذلك الطقس تأسيسا يعتمد عليه في بناء منظومة سلوكية ذهنية بطرق تلقينية واضحة لا مراء فيها، وبالتالي ضاعت تفاصيل كثيرة كان بالإمكان الاستعانة بها لرصد الكيفية التي ينمي بها المجتمع تفاصيل مرحلته وخصائصها.

هنا سنحاول جس بعض تلك الأنساق العامة في ظاهرها وخفيها بما يترك لنا مساحة لفهم أولي حول أبعاد ما كان يتم تأسيسه في المكان العماني.

الظاهر العابر

تفتح ثيمة الزواج - من حيث وجودها الفطري - مساحات تعايشية بحتة، بما يعنيه ذلك من تكيف ومرونة وانسيابية تقبل وتقليد وتكرار، وهو المناخ العام الذي منه يستقي المجتمع ثابته في كل ما يقوم به ويعمل على تكريس توجيه العموميات والتفاصيل وفقا لنسقه التراكمي التلقيني، الذي عادة ما نستخدمه بصفته أداة تخص العادات والتقاليد المتوارثة، لا بأس بهذا القارّ في الوعي واللاوعي الجمعي، فالسلوك أشبه بالوراثة خطوة بخطوة، بينما هو في العمق أكبر من ذلك بكثير.

يعبر المشهد من لحظة القيام بخطوة البحث عن بنت الحلال، وتستمر خطوات الخطبة والسؤال وتحديد المهر ودعوة الناس لحفل العرس وما يصاحب العرس من تمظهرات الفرح والسعادة والحبور، ومن ثم تستمر الحياة بشكلها وجوهرها الاعتياديين كما هو ماثل في الحيوات الزوجية المختلفة، أما ما قبل ذلك فهو محصور في السؤال عن العروس وأهلها، بينما نظن أن ثمة مساحة مجهولة أو غامضة متصلة بالفتاة التي تم تزويجها خارج سياق الرصد الفلكلوري لم يتم النظر إليها، لأن العابر هو ما كان حاضرا في التعامل مع المشهد.

خلف المستكن

في البيئة العمانية، في شقها المنتمي إلى منتصف القرن العشرين الفائت، ثمة نسق سلوكي، بخاصة لدى البيوت التي تكون فيها أو فتيات، وهنا نحكي من زاوية الخبر المرتبط بالولادة، حيث يتحدد النسق التربوي والتكويني، بصفته بداية التهيئة لمرحلة الزواج، وهو نسق ينسكب بشكل تلقائي في اللاوعي الأمومي، حافزه التراكم الجمعي المتكرس في البيوت جميعا.

قدوم مولودة في بيت أحدهم يعني طريقة تربية خاصة، وحرص في وضع خطة تكوين سلوكية مختلفة، واستحضار مكثف للكيفية التي بها سيتم التعامل مع الوضع من وحي الذاكرة الخاصة المتجذرة بالتلقين..

هناك أسس للتعامل مع القاموس اللفظي، واستقبال الضيوف، والتعامل مع كبار السن من الرجال والنساء، والتعاطي مع طرق الطبخ، والتعاون مع الأقارب من النساء فضلا عن الجارات، والاهتمام بالترتيب وفقا لطبيعة كل بيت ومكوناته، فهذه السلوكيات يسوقها نسق واحد، مبني على فكرة تحضير الطفلة لتكون فتاة بمواصفات زوجة وأم أطفال في المستقبل، فهو تأهيل بطرق مباشرة وغير مباشرة، ولإن كانت هذه الوظيفة في شكلها الظاهر منطقية وتدخل في سياق العادة، إلا أن التحفيز اللاواعي، الذي يقود أفعال الأمهات لتحقيق مستوى رساليّ محدد، يوصلها إلى الالتفات إلى التفاصيل الدقيقة، مما سيحولها في بعض المراحل إلى أن تكون قاسية وصعبة المراس وموحدة الوِجهة، وهو سلوك له ما يبرره في البيئة العمانية التقليدية، بوصفها الوظيفي المستمر، وليس الفلكلوري المستعاد بقصد استعراضه فحسب.

تمظهرات الذات والآخر

هناك سلوكان يتقاسمان النسق ويتكاملان به، أولهما غريزي فطري، وهو متصل بالطفلة ذاتها في صلتها بالأمومة، والثانية قصدية متمثلة بالأمهات، لكنها مدعمة باللاوعي الجمعي والفردي على حد سواء في وضع مخطط التهيئة السلوكية المستقبلية.

يتجلى السلوك الأول في تكثف لعبة الأمومة ومسؤولية الأسرة في الألعاب التي تلعبها البنت مع قريناتها أو لوحدها، وهي تعكس الاهتمام واللباس والترتيب المنزلي والطبخ، فضلا عن التعامل مع الأقمشة والمقاسات والقص، وربما لعبة (حْييه) تعكس هذه السلوكيات الذهنية مجتمعية، فهذا النسق الغريزي، المنقلب عن الاتكاء على مشاهدات مباشرة، أغلبها في تعامل الامهات مع الأطفال الأصغر سنا، يعتبر مؤشرا سلوكيا محفزا.

السلوك الثاني هو النسق الأكثر تعقيدا مما هو ظاهر، فهو مزيج من التراكم اللاواعي والمسؤولية القصدية الواعية، وهما جميعهما يشتركان في صناعة توليفة الأم المعنية بالتنشئة والتهيئة، ففيه تدخل الطفولة المبكرة للأم، ثم نسق التربية من أمها الأسبق عليها زمنيا، ثم خيار عدم الخروج عن النمط النسقي للتربية الجمعية في المكان، ثم المرور بتجربة الأمومة بصيغتها المكررة والمزدوجة بين الزواج والإنجاب، وتلك كلها بمثابة عناصر تكفلت الشخصية المكانية بتأثيرها الجمعي بوضع خطوط سير ذهنية لتحقيق شكل الشخصية البيتية (الزوجية) على أكمل صورة يفترضها المكان، وهذا ما حصل في البيئة العمانية القديمة، المستعادة صورتها من خمسينات القرن الماضي.

بوصلتان ومرحلتان

لدينا بوصلتان، تحيلان إلى مرحلتين، بوصلة أولى مرتبطة بمرحلة تقليدية قديمة في البيئة العمانية، ولها نسقها التكويني والجغرافي والثقافي والمرجعي الخاص بها، وبوصلة ثانية مرتبطة بالمرحلة الحالية، لها نسقها التكويني والثقافي والمرجعي الخاص بها، وبين البوصلتين نقاط اتفاق واختلاف، وأهم ما تتفقان فيه هو المكان، وفي المقابل نجد أن أهم نقاط الاختلاف هي المكان ذاته.

النسق الذي يتقاسم التراكم بين الجينة الوراثية الثقافية والتحول الصيروري، يفتح حوارية مقارنة بين ثابت المكان ومتحوّله، بين شخصيتين تلتقيان وتتصارعان وتتفقان في الوقت ذاته.

بالنظر إلى سياق النسق في أُسّه البعيد في الزمن، سنجد أن القواسم المشتركة هي الجوهر الذي من خلاله يمكن قراءة محددات الشخصية العمانية الانثوية في تكوينها بصفتها طفلة وزوجة، ولكن الشكل والمحفز الذي يقترن به النموذجان يفترقان قليلا، وربما باتساع مساحة الوقت المستقبلي (قياسا بالحالي) سيغترقان كثيرا من حيث مظهر التكوين لا جذره، ويمكن فهم هذا في خارطة ذهن الأم عندما تعدّ الطفلة، فسابقا كانت الفكرة هي لتكون زوجة في المقام الأول، هذا محور ارتكاز مهم، أما الآن فيتم إعدادها لتكون شيئا مختلفا في المقام الأول، وزوجة في المقام الثاني، وهذا فارق في النسق السلوكي الجوهري، والسبب في كلا المرتكزين هو التحول الذي طال شخصية المكان من زاويته الواقعية، والمسار الذهني الذي انساق وراء مناظير مستقبلية غاية في الاختلاف عما سبق.

طقوس ومرايا

يمكن فهم النسق السلوكي القديم في البيئة العمانية على أنه طقس قائم على التكرار والاعتياد، وهذا سر جوهره، وسر التجذر، ومبعث النسق الذي تشربته المراحل السابقة، بينما يمكننا وصف المرحلة الحالية في صلتها بـ ثيمة الزواج على أنها مرايا، بما تعنيه من انعكاسات مستوحاة ومستقاة من الانفتاح على تجريب مناخات مختلفة للوصول إلى الارتباط، بمسوغات تحتكم إلى مقاييس المعاصرة، مما يجعلنا أمام نسق مختلف، يشي بالتحول، وإن بطريقة متدرجة.

نظن أن فتح كوّة للقراءة الثقافية في رصد التحول في سياقاته المقارنة حول الزواج، سيعطي إفادة تجعلنا نفهم ونعي ونستوعب مناخات المكان الواحد عندما تشترك في الجذر وتختلف في السياق المجتمعي المتصل بالتغير الشكلي ومعطياته في المكان الواحد.