الأبعاد الحقيقية لقصيدة "لي ما يبرر وحشتي هذا الصباح لـ" يحيى السماوي" من منظور الشعر السياسي ( 3 )

البنى العميق للنص ومحاولة الوصول للمكن:
ونظرا لتبدل الرؤية الجمالية للنص ما استدعى ذلك سقوط المقاييس المتعارف عليها في القصيدة العمودية أو التفعيلة على حد سواء واقتصار النص على القدرة على الانتقالية الانفعالية والتأثير في انفعالات القارئ وتوجيهها لخدمة الغرض الأكبر والذي يهدف إلى كسب أكبر قدر من التعاطف للقضية ومنها لحشد التأييد المطلوب لعملية التغيير الهادئة والساعي إليها النص، فإن ذلك يتبعه سقوط البلاغة بشكلها التقليدي والمشكلة للحس الجمالي القائم على التجسيد والتشخيص، لتبرز بدلا منها عوامل أخرى محقق لغاية النص الجمالية للانتقالية كي تحل محل ما تعارف عليه من تقليدية بلاغية تثير ولا تكشف وتشحذ الهمم للتغيير العنيف ولا تتأمل لتعطي المساحة الكافية للتبدل المطلوب.
وللوصول للبنية العميقة للنص وبالتالي للمعنى الممكن له، يجب الانطلاق من الرؤية التفكيكية للنص وتحوله لمستوياته بدأ من أصغر وحداته، وتحديدا من البنية الصوتية له، علها تكشف لنا جانبا هاما من استراتيجية النص في العملية الانتقالية للانفعال، كذلك للكشف عن الانزياح المعنوي والإيحائي للأصوات المهيمنة عليه في مقابل الأصوات المهملة فيه كثنائية صوتية يمكن لها دالة على جوانب معينة للمعنى، بجانب ثنائية الإيقاع التي سيأتي ذكرها تباعا.
ومن الواضح أن هناك أصوات هيمنت على النص بدءا من صوت اللام مرورا بمدّ الألف ثم الهمزة فالميم و التاء والراء وأخيرا النون، في مقابل أصوات أهملها النص وكانت كالتالي: الظاء ثم الزاي فالثاء والغين والذال والطاء ومد الواو والصاد والشين والجيم وانتهاء بالخاء.والسؤال الذي يطرح نفسه وبقوة، ما الذي تشكله هذه الأصوات من حيث الهيمنة أو الإهمال ؟
وما طبيعة الانزياح المعنوي والدلالي أو الإيحائي لهذا الأمر ؟.
ومن المعلوم أن حرف اللام كأقوى الحروف وأكثرها انتشارا هو (حرف مجهور متوسط الشدة) حسن عباس ـ خصائص الحروف / كما أنه يسقط كدلالة صوتية إيحائية (للتماسك) من جهة ومن جهة أخرى (بالالتصاق) مما يعني بالضرورة أن هناك التصاقا وثيقا للحالة الشعورية لمضمون معنى الجملة للمشكلة الأساسية والدافعة للنص (الوحشة).
خذ مثلا (لماذا لا أكف عن اتصالي الهاتفي بها) فالمعنى لا يحتاج تبيان إلا أن دخول اللام كأحد الأصوات الحاسمة والمشكلة للمعنى داخل السطر الشعري يقوم بشكل أساسي بمسؤولية نقل الانفعال جراء تكراره ومن مجرد المداومة إلى حيز الالتصاق بالفعل (لا أكف) والتشابك مع (اتصالي الهاتفي) وإسقاط ذلك في نفس المتلقي كحدث فاعل ومولد للمشكلة ( الوحشة)، ليأخذ المعنى بعدا أخر غير المداومة إلى الارتباط الوثيق ( التشابك و الالتصاق )، بحث تبدو الإشكالية واضحة مع ربط هذا المعنى مع المعنى السطر السابق عليه والواصف لحالة الطرف الآخر (الأم) من استحالة هذا الالتصاق أو التشابك ليكشف لنا عن طبيعة الوحشة التي تهيمن على النص.
ثم لو ضممنا ذلك مع السطر التالي له (وإرسالي المزيد من التصاوير الحديثة ) لبدا لنا جليا الإشكالية الحقيقية من محاولة اختراق متكررة لحاجزي الصمم والعمى، إذا هما محاولتان فاشلتان تتكرران مع الكثير من الالتصاق والتماسك بالنفس المحاوِلَة فتكون النتيجة الحتمية (هل يرى الأعمى من القنديل أكثر من ظلام ؟) وبالرغم من ذلك فالتشابك والالتصاق ضرورة حتمية كانزياح معنوي لصوت اللام المهيمن على الجمل في هذا المقطع وغيره.
وإن كان كذلك فالبعد اللمسي للحرف ( اللام ) يدخل طرفا آخر في المعادلة المطروحة، وفي تحول الصورة من منطقة التجريد الذهني المتخيلة للمعنى إلى الجانب الحسي اللمسي له ( الثور الهزيل ) فصفة الهزال للصورة لم تعد معتمدة على استرجاع الذاكرة أو استحضارها لصورة الهزال بل تعدت إلى الإحساس اللمسي للهزال كحالة دافعة للإنسان لأن يتلمس هذا الهزال جراء استخدام حرف اللام كبداية ونهاية للصفة (الثور الهزيل).
صورة ثالثة أشد وضوحا لخدمة دلالة حرف اللام لإيحائية المعنى من الجوانب السابقة مجتمعة في السطرين التاليين ( لا أدري لماذا لا أكفّ عن التلفت للوراء / ولا أمل من التطلع في حطامي ؟ ) ولعل هذا أيضا يلقي الضوء على زاوية الشكل المستطيلي والتقاء الوحشة مع نهاية أخرى ليبدأ ضلع آخر في الانكشاف أمام المتلقي لأبعاد الوحشة الكلية.
فالحرف متكرر في السطرين بشكل لافت للنظر (إحدى عشرة مرة) منها صوتان مضعفان كنوع من التوغل في الإيحائية مما يرسخ حالة الالتصاق للحيرة من جهة ومن جهة أخرى انعكاس الوحشة داخل النفس ونتيجة لها ودافعا لتحول هذه الحالة المتماسكة القوية للحالة اللمسية، فحالة الحيرة (لا أدري) والسؤال والدهشة (لماذا) ثم الخوف والترقب للمحذور (التلفت للوراء) والتواصل والدوام (لا أملّ) مع استشراف الآتي (التطلع) ليسقط كل هذا في الحطام كلحظة صادمة تنعكس على القارئ كنهاية حتمية للمرحلة السابقة وبداية سفرة أخرى في عمق الوحشة والغوص في الضلع السياسي للمجتمع الباعث للوحشة، وهذا بالطبع لا ينفي التأثيرات للحروف الأخرى في السطور السابقة كمد الألف المعلن للحالة والمعبر بدفقه للهواء عن طبيعة الحرف السابق له والمعلن عن التالي له، (حيث يقتصر تأثيرها في معانيها على إضفاء خاصية الامتداد عليها مكانية أو زمانية) حسن عباس ـ خصائص الحروف / وخاصة مع حرف اللام.
وإن كنت أرى أنه أيضا يضفي حالة من الحزن و الانكسار جراء الخروج الحر والحار للهواء كدفق متتابع وكحركة إيحائية لظفرات الألم للتوجه، إلا أن بالطبع سيطرة السابق عليه كصوت قوي يجعل صفاته أعلى من صفات حرف مد الألف وخاصة لو كان حرفا قوي الشخصية، فإن سمات الحرف القوي بالتالي ستفرض نفسها عليه حتما، ولكن هذا لا يمنع بروز هذه الحالة (الحزن والانكسار) مع شيوع هذا الصوت في السطر الشعري.
أمّا عن حرف الهمزة فإن هذا الحرف الدال على (الوعائية إلا أنه دال على الجوف وما هو وعاء للمعنى) نفسه / وهذا ما يجعل لمعنى الوحشة بعدا أكثر توغلا في النفس، فنرى مثلا حينما يحاول النص تجسيد الحالة النفسية لمن يمر بتجربة الاعتقال وفقدان الحرية (محمود بن كاظمة) (ويقول لا تبلغ سلامي أحد / إلى أن تكنس الأنوار أرصفة الظلام) فإن من الظاهر أن صوت الهمزة متوالي تقريبا مما يدفع القارئ لأن يبدأ الكلمة به ما يعني البداية من الجوف دائما مما ينبع معه الشعور بالوعائية لمعنى الكلمة (لى أن) اتجاه ثم استقرار تأخذ السلام من (أحد) كدال يأخذ استيعابية شمول المعنى الرافض حتى يتحقق ما يصبو له (تكنس الأنوار أرصفة الظلام) من احتواء النور للظلام.
ثم كدلالة بصرية للصورة (أحد ـ أنوار ـ أرصفة ـ الظلام) فإن المعادل المعنوي والدلالي للألفاظ السابقة متخيلة بواسطة حاسة البصر ولا غير، فإن اجتمعت الدلالات السابقة تشكل معا الحالة الانكسارية من جانب تسلطها واستيعابها لشخصية (محمود) كرمز دال على شريحة من المجتمع رافض ومصدر للوحشة.
وبالنسبة للميم والراء فإنهما يدلان على مجموعة من المشاعر انطلاقا من (السد والانغلاق مع الحرارة والجمع والضم ) نفسه / إن كانا في بداية اللفظ أو (التوسع و الامتداد) نفسه / إن كانا في نهاية اللفظ، مع الميزة الصوتية كدال على (المص والحلب) نفسه.
خذ مثلا لفظة (متهما) في (وكان متهما وقد ثبتت براءته) فإن هذا اللفظ شديد الإيحائية من حيث الحرارة ثم السد و الانغلاق لدلالة الاتهام أمام النفس لشعورها بالمأساة أو المأزق وامتداد ذلك أمامها كحالة يصعب التخيل معها الخروج من المأزق في ظل النظام الاستبدادي، فإن هذه الدلالات الإيحائية تأتي نظرا لوقوع الميم في البداية والنهاية للفظ، كما أن لفظي (التقدم / الأمام) يوحيان بالامتداد الأفقي وبالطبع فإن إيحائيهما يبدوان أكثر وضوحا مع جملتهما (صار يطنب في الحديث عن التقدم للوراء أو التراجع للأمام ) ثم التناوب في صوت الراء كعامل مساعد قوي للامتداد (وراء / تراجع) فإن هذه الحالة المدهشة والمبكية للنفس المنطلقة من المحنة (الاعتقال) تبدو انكساريتها شديدة نتيجة هذه الرؤية الممتدة والمعاكسة لما اعتقلت من أجله لتبرز مصدرة الوحشة في نفس المتلقي.
ولذلك فإن اجتماع الإيحاءات السابقة مجتمعة تشكل العموم للانزياح المعنوي والانتقال الانفعال كغاية جمالية يسعى إليها النص ويضعها نصب أعينه، وكلها تنصب في خانة تماسك حالة الانكسار والوحشة واستقرارها في النفس، ثم الترجيع لهما (كخاصية ثابتة لحرف اللام) مما يدفع النص لتكرار دائما (لي ما يبرر وحشتي هذا الصباح) كمفتاح ومنطلق، وكنهاية متوقعة راسخة، وكحافز أساسي لاكتشاف الوحشة والبحث عن مسبباتها.
لذا لم يكن غريبا بالطبع سقوط صوت (الظاء) الذي يوحي الفخامة، والزاي الذي يوحي بالحدة والفعالية، والثاء الدال على الرقة والليونة.
فإن مجموع هذه الأصوات ودلالاتها المعنوية وما يترتب عليه من انزياح معنوي سواء بالانتشارية والهيمنة أو الاختفاء والإهمال، تؤكد لجوء النص إلى الدلالات الصوتية (ظهورا واختفاء) كعامل حاسم في الكشف عن جوانب مهمة للوحشة ثم الدفع بها لنفس القارئ كحامل للانفعالية ومحقق للانتقالية كغاية جمالية كبرى للنص السياسي، وبالتالي تقوم بدورها الطبيعي كبديل للبلاغة التقليدية، فالحالة حالة انتقال لا تجسيد أو تشخيص بل بث وانتقال.
إلا أننا يحب ألا نغفل أن هذه الأصوات الشائعة في النص تتباين من حيث اللجوء إليها في كل ضلع من الشكل المستطيلي للقصيدة، أو من حيث رسم جوانب الوحشة الرباعية الأضلاع، إذْ نجد ارتفاعا لصوت من الأصوات الشائعة في مقابل انخفاض آخر منهم، والعكس صحيح أيضا في أحوال أخرى، مما يعني كدلالة قاطعة لا تقبل الشك إلى ما أشرنا إليه من تحمل الأصوات عبء حمل الإيحاءات على عاتقها والوصول إلى الغاية الجمالية المطلوبة بالدرجة الأولى.
فصوت اللام أكثر الأصوات انتشارية في النص وبالتالي تأثيرا فيه، نجده في الضلع الأول القاعدي للشكل المستطيلي ليس هو الشائع والمهيمن، بل صوت الهمزة كدال على المشاهد البصرية لبيئة النص وكوعاء حاوٍ للتحولات المستمرة في الحياة الاقتصادية والاجتماعية، وكحركة مستمرة للخروج من المأزق أو على الأقل تقدير محاولة الخروج والخلاص من التبعات الملقاة على عاتق الفئة البسيطة والجاهلة أمام الحكم غير الواعي أو العابئ بمصالح جماهيره.
على حين تأتي أصوات اللام والتاء كأصوات (متقاربة بين الهمس والتوسط في الشدة) غانم قدوري ـ علم أصوات العربية / كتأثير صوتي إيحائي في النفس، ما يوحي بالتحول الهادئ دون صخب كنوع من أنواع الاستسلام، ثم هما يمثلان الثنائية الضدية المسيطرة على عملية التحول، ما بين التماسك للام والالتصاق وما بين الاضطراب للتاء كصوت (يشبه قرع الكف بالأصابع) حسن عباس ـ خصائص الحروف /، ثم صفة الإعلان نتيجة الامتداد الصوتي لصوت مد الألف الذي لا يكون له إلا إظهار صفات الأصوات السابقة عليه (هل يرى الأعمى من القنديل أكثر من ظلام) فتكرارية الراء للرؤية (يرى)، ثم الميم كحرارة مؤلمة في النفس جراء فقد الرؤية (الأعمى)، ثم التشابكية والاتصاق للاوضوح نتيجة اللام (ظلام) كل هذا في إطار تتابع حرف اللام المسؤول عن تماسك وتشابك الصورة وتتابعها (تكرر أربع مرات في السطر) ليصبح الظلام النتيجة الحتمية للأعمى المتصف بالمحاولة المتكررة للرؤية واستخدام مصدر الضوء كدال على فقد الشخوص المتوالية في النص للضلع القاعدي للبيئة المؤهلة للرؤية حتى مع امتلاك مصدرها، ناهيك عن سيطرة الظلام وتماسكه أمام النور كمعلم من معالم الحياة في الوطن الأم كدلالة سوداوية للوحشة داخل النفس البشرية.
وكذلك في الضلع الموازي للقاعدة في الشكل المستطيلي ن كصورة تصاعدية أو الذروة لضلعي (علاقة الحكم بالجماهير ـ محمود ـ وعلاقة الحكم بالعلم والحقيقة المطلقة ـ القصر ونشرة الأخبار)، ليضع لنا النص الصورة المتماسة مع الأسطورة ليدور معها فصول التعامل من الخروج المتوالي من مأزق الشك الذي يسيطر على نظام الحكم الأمني والقاهر لجماهيره، لتبدأ معها مداورات حمادة الحمار (جحا) للخلاص من ورطة وضعها حماره فيها والتعامل الأمني معها والشاكّ في النوايا والحكم عليها بناء على الظرفية لا القطعية للأدلة.
فمدّ الألف يعلو بجانب اللام مع الميم على حين تنخفض بشدة الهمزة، وتتقارب أصوات التاء والراء والنون لتمزج معا ـ ونلاحظ ـ أن جل هذه الأصوات(تنطق من مقدمة الفم بداية من اللثة وانتهاء بالشفاه) غانم قدوري ـ علم أصوات العربية / مما يسحب منها صفة (العمق والشدة) حسن عباس خصائص الحروف / فيعضد من حركية المشاهد كمكون أساسي للصورة الهزلية الساخرة والمبكية لشخصية حمادة / حجا، فبجانب التماسك والحرارة المؤلمة للمشهد نجد الاضطراب والألم للنون مع الاستكانة مع تكرار الراء.
هذا التباين في الاستخدام يؤكد أولا على معيار المهارة لاستخدام خاصية الأصوات كعامل حاسم في بروز الجانب الجمالي لتشكيل الصورة والإسقاط أو الانزياح المعنوي لها في نفس المتلقي وتجعل من الممكن الهروب من تقليدية البلاغة المجسمة والمشخصة، والتي لا يمكنها أن تصبح جسرا لانتقالية الانفعال.
فالبلاغة التقليدية من تشبيه واستعارة وكناية لعلم البيان المجسم والمشخص يجعل من المتلقي متعاطفا لا منفعلا، حزينا جراء التجسيم لا رافضا جراء الإحساس، إلا أن مهمة الشعر السياسي وبالطبع نصنا في المقام الأول بث الانفعال وجذب المتلقي لمنطقة انفعالية شعورية لشحذه لعملية الرفض وبالتالي التحول وليدور في نطاقها، لذا فلا تجدي شخصنة الفكرة أو تجسيدها لبلوغ الغاية الجمالية المحددة سالفا.
وبالتالي تأخذ الأصوات هنا دور الحامل والدال معا على ملامح الصورة الإيحائية والنفسية للمشهد الحركي والبصري والسمعي بين النص والمتلقي للانفعالية المطلوبة ولعل هذا ما يحيلنا إلى الجانب الآخر أو المعادل للأصوات في هذا المستوى، ونقصد به البنية الإيقاعية للنص.
البنية الإيقاعية للنص وعلاقتها بالانفعالية كغاية جمالية:
لا شك في أن البنية الإيقاعية لأيّ نص هي الجناح الثاني والمكمل للبنية الصوتية له، وهي انعكاس حقيقي ومؤثر في عملية الانتقال الانفعالي كأساس جمالي تقوم عليه القصيدة السياسية.
وتأخذ البنية الإيقاعية أهميتها من كونها الدال المؤثر في نفس المتلقي على هذا الانفعال، بالرغم من الشكل الخفي لها في النص، كما أنها المؤشر الحي للعملية المسؤولة عن انتقال الانفعال كهدف أسمى للقصيدة السياسية من جهة ومن جهة أخرى أحد أهم العوامل الرئيسة في التأثير الانفعالي عموما، بجانب أنها البوصلة لاتجاه الصورة وحركتها الداخلية وتموجها، لذا فإن دراستها هو في واقع الأمر كشف لجانب هام للمعنى الممكن، جانب نستطيع وصفه بالحاسم والمؤثر، هذا الجانب وإن كان ذا أثر هام إلا أنه خفي تدركه النفس ويخفى على العين إلا عين الخبير بالإيقاع الشعري
والبنية الإيقاعية لنصنا تعتمد أساسا على تفعيلة بحر (الكامل / مُتَفاعِلُنْ )، وبمعنى آخر النص ينتسب إيقاعيا إلى البحر الكامل، وهذه التفعيلة تتميز بمقدرتها على التحول إلى (مُتْفاعِلُنْ) وهي تشبه صوتيا ( مُسْتَفْعِلُنْ للرجز ) والتي تعنى الحدة في مقابل انسيابية (مُتَفاعِلُنْ) التفعيلة الرئيسة للبحر، لنجد التنوع المطلوب والحرية في التعبير عن الحركة الداخلية للصورة والمعنى معها.
إلا أن الأمر لا يقف على هذا الحد فقط، بل يتعدى ذلك لإثراء الإيقاع نظرا لطبيعة السرد وتنوع الشخوص وحركتهم نسبة لتنوع طبقاتهم وثقافتهم وطبيعة مشكلاتهم وعلاقاتهم بالنص أو الحكم، نقول إنه تعدى ذلك إلى استخدام تقنية (التدوير) وهي تقنية من الأهمية بحيث تستطيع أن تغير من مسار الإيقاع لتدخله في أتون بحر آخر وبالتالي جو إيحائي نفسي إيقاعي آخر يناسب التحولات الداخلية والخارجية للمعنى وتخدم الغاية الجمالية أيما خدمة.
بجانب أن هذه التقنية (أي التدوير) تقوم بدور هام آخر حيث تجعل من البيت الشعري في شعر التفعيلة يمتد إلى أكثر من سطر شعري، مما يعني امتداد الصورة وتكثيفها، وفي جانب آخر تبرز خاصية ما يسمى بالفضاء الشعري للكلمة الهامة أو المفتاح.
فالنص إذا ينتمي إلى البحر الكامل إيقاعيا بخاصية تفعيلته ( مُتَفاعِلُنْ / مُتْفاعِلُنْ ) المتابينة بين الانسيابية والحدة المتوالية الشبيهة بـ ( الرجز / مُسْتَفْعِلُنْ ) فتساوي الساكن أمام المتحرك يعني الحدة في الإيقاع نظرا لأن التفعيلة تصبح مقاطع متساوية في البناء ( / 0 / 0 // 0 ) أمام قلة الساكن نسبيا بالنسبة للمتحرك ما يعني الانسيابية في الحركة والتي تناسب الحركة الراقصة ( / / / 0 / / 0 )، فنحن أمام نوعية خاصة من الحركة المتغيرة للحركة الداخلية للصورة ما بين التوازن والحدة وما بين التوالي والراقص المنساب، إلا أن تدخل تقنية التدوير في البيت الشعري يجعل الإيقاع أكثر ثراء من ذي قبل، حيث تدخل تفعيلة (بحر الوافر / مَفاعَلَتُنْ ـ مَفاعَلْتُنْ أو مَفاعيلُنْ) نظرا لاعتبار بعض العروضيين المحدثين أن تفعيلتي الوافر والهزج واحدة لتبادلهم في الوافر ( انظر موسيقى الشعر بين الإتباع والإبداع / شعبان صلاح ) باندفاعها الصاخب وعلو صوتها، وفي بعض الحالات المحددة تنتج عملية التدوير تفعيلة الرجز (مُتَفْعِلُنْ) الرزينة والمعللة عند الضرورة أو التحول من السرد إلى التعليل أو التأمل.
إذا في حقيقة الأمر، ولو أن النص ينتمي إلى البحر الكامل إلا أنه يقوم على أساس التنوع الإيقاعي، وبروز ثلاث تفعيلات تقوم بالعبء الأكبر في العملية الانتقالية للانفعال كغاية جمالية، وهم كالتالي (مُتفاعِلُنْ) وصورتها (مُتْفاعِلُنْ / مُسْتَفْعِلُنْ) كتفعيلة والدة، تخرج منها بسبب تقنية التدوير تفعيلة (مُفاعَلَتُنْ) وصورتها (مُفاعَلْتُنْ / مفاعيلن)، ومع تفعيلة مساندة لوقت الحاجة أو التعليل أو الانتقال للتأمل (مُتَفْعِلُنْ).

هشام مصطفى
شاعر وكاتب مصري