الإنسان كائن اجتماعي بطبعه مدني بفطرته؛ يألف ويؤلف، ويؤثر ويتأثر، يحب الاجتماع والاختلاط والأنس، ويكره العزلة والانفراد والوحشة، لا يستطيع أن يعيش بمفرده، ولا يمكن أن ستغني عن غيره، لهذا فإن مجالسة الغير، ومخالطة الآخرين، أمر ضروري للإنسان لابد منه، من هنا نشأت الجالس البشرية منذ القدم وتعددت، وظهرت اللقاءات الإنسانية وتنوعت.
فالإنسان لابد له في حياته اليومية من مخالطة الناس، ومعاملتهم، ومجالستهم، ومشاركتهم في مجالسهم الخاصة والعامة، وهذه المجالس يحضرها ويرتادها أناس من شتى الفئات، ومن مختلف الطبقات والمستويات.
وقد كان الأنبياء، والمرسلون، والعلماء، والمصلحون، والدعاة، والعارفون يخالطون الناس، ويغشون مجالسهم، بتواضع، وإخلاص، وخُلق، ودراية لهدف سام، وغاية نبيلة؛ يأمرونهم بالمعروف وينهونهم عن المنكر، ويذكرونهم بالله وباليوم الآخر، وبما لهم وما عليهم، وبما يصلح حالهم ومآلهم، ويعلمونهم أمر دينهم، ويبصرونهم بشؤونهم، ويقدمون لهم الإرشاد والتوجيه، ويسدون لهم النصيحة.
إن مجالس الناس من حيث الحقيقة، ومن حيث الحكم الشرعي تنقسم إلى قسمين؛ مجالس خير وبر، وطاعة ومعروف، ومجالس شر وإثم، ومعصية ومنكر، يقول الله تعالى عن مجالس الخير، والبر، والطاعة، والمعروف: { يا أيها الذين آمنوا إذا قيل لكم تفسحوا في المجالس يسفح الله لكم وإذا قيل انشزوا فانشزوا يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات والله بما تعملون خبير} سورة المجادلة الآية"11"، ويقول تعالى: { في بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه يسبح له فيها بالغدو والآصال* رجال لا تليهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة يخافون يوماً تتقلب فيه القلوب والأبصار* ليجزيهم الله أحسن ما عملوا ويزيدهم من فضله والله يرزق من يشاء بغير حساب} سورة النور الآيات"36-38"،
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قال: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " مَا اجْتَمَعَ قَوْمٌ فِي بَيْتٍ مِنْ بُيُوتِ اللَّهِ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَيَتَدَارَسُونَهُ بَيْنَهُمْ إِلَّا نَزَلَتْ عَلَيْهِمُ السَّكِينَةُ وَغَشِيَتْهُمُ الرَّحْمَةُ وَحَفَّتْهُمُ الْمَلَائِكَةُ وَذَكَرَهُمُ اللَّهُ فِيمَنْ عِنْدَهُ" رواه مسلم.
ويقول الله تعالى عن مجالس الشر والإثم والمعصية والمنكر: { وقد نزل عليكم في الكتاب أن إذا سمعتم آيات الله يكفر بها ويستهزأ بها فلا تقعدوا معهم حتى يخوضوا في حديث غيره إنكن إذًا مثلهم إن الله جامع المنافقين والكافرين في جهنم جميعًا} سورة النساء الآية:"140".
ويقول الله تعالى في وصف المؤمنين: { والذين هم عن اللغو معرضون} سورة المؤمنون الآية"3"، ويقول تعالى في وصف عباد الرحمن: { والذين لا يشهدون الزور وإذا مروا باللغو مروا كرامًا} سورة الفرقان الآية"72".
إن الحديث هنا إنما هو الحديث عن مجالس الخير والبر، ومجالس الطاعة والمعروف، فهذه المجالس يجب الاعتناء بها، والاهتمام بها، والمحافظة عليها، وتفعيلها وفق شرع الله تعالى، لما لها من أثر كبير وعجيب، ولما لها من دور عظيم وجليل في نشر الوعي الديني والمعرفي، وتعميق الثقافة والأصالة والهوية الحضارية، وغرس الفضائل والقيم والمثل، وتقوية الروابط الاجتماعية، وتعزيز أواصر المحبة والألفة بين المسلمين، وإدخال السرور والبهجة والسعادة، وبث المواساة والتسلية في نفوس الناس، فإذا صلحت هذه المجالس صلح الناس، وتحقق الخير الكثير، وهذه المجالس متعددة، ومتنوعة منها: مجالس العلم، ومجالس الذكر، ومجالس الفرح، ومجالس العزاء، ومجالس الأسرة، ومجالس السمر، ولكل مجلس من هذه المجالس ميزته التي يتميز بها، وخصوصيته التي يختص بها؛ له ميزته التي تدل على كنهه وحقيقته، وله خصوصيته التي تحقق الغاية المرجوة، والهدف المنشود منه؛، فمثلاً مجالس العلم تتسم بالجدية والسؤال والجواب، والمناقشة والاستفسار، والنظر والبحث، والتحقيق والدقيق، ومجالس الذكر تتسم بالوعظ والإرشاد والترهيب والترغيب، ومجالس الفرح تتسم بالبهجة والتهنئة والتبريكات، ومجالس العزاء تتسم بالحزن والتسلية والمواساة، ومجالس السمر تتسم بالفكاهة والدعابة والمرح والمزاح وبث الشجون، وتبادل الأحاديث الودية والأخوية. والمجالس الأسرية تتسم بالجو العائلي الذي يسوده الحنان، وترفرف عليه العاطفة.
للحديث بقية.

يوسف السرحني