[author image="https://alwatan.com/v2/v2/wp-content/themes/watan/images/opinion/ahmedalkadedy.jpg" alt="" class="avatar photo" height="60" width="60"]د.أحمد القديدي[/author]
كنت دائما عندما أقابل أحد المسؤولين النافذين أنصح بإنجاز عملية إعادة النظر في القوانين من أجل تحيينها وملاءمتها لواقع وطني جديد، فالمجلة الجزائية التونسية يعود تاريخها إلى 1913 حيث كانت تحمي مصالح المستعمر وقانون جلب السيارات من الخارج الذي سنه بورقيبة سنة 1960 والمسمى (الإف سي إر) كان منذ ستين عاما يحل المشاكل، وأصبح عبئا ثقيلا على الشعب وعلى الجمارك، وكذلك قانون الأحوال الشخصية الذي سنه بورقيبة لمعالجة معضلات 1956 يجب تقييم إيجابياته وسلبياته وتعديل بعض بنوده لينظم العلاقات الأسرية..

عندما كنت أحد طلاب السربون في باريس أعد رسالة دكتوراه الدولة بإشراف الأستاذ المستشرق (دومينيك شوفالييه) منذ عقود، رسخت في ذاكرتي حكمة نطق بها هذا العالم بشؤون السياسات العربية ومناهج الخروج من التخلف بعد استقلال الشعوب، حين علق على أحداث الاحتجاجات الشعبية ضد إملاءات صندوق النقد الدولي في كل من مصر وتونس والمغرب خلال السبعينيات، وهو ما سمي وقتها بانتفاضات صندوق النقد فقال أستاذنا تلك الحكمة التي أستعيدها اليوم وهي : "إن الشعوب العربية أحوج ما تكون إلى ثورات تحدث في صلب الدولة لا ثورات تحدث ضد الدولة". وشرح لنا الأستاذ نظريته تلك قائلا بأن الأمم التي نهضت من كارثة الدمار وحققت المعجزات مثل ألمانيا واليابان بعد أن دمرتا تماما أثناء الحرب العالمية الثانية لم تقم جماهيرهما بثورة في الشوارع، بل أنجزت ألمانيا واليابان ثورة انطلقت من قلب الدولة الجديدة المؤسسة على تقاليد الدولة القديمة، وهو الفرق ما بين الثورة الحقيقية الناجعة والانتفاضة الفوضوية الخادعة. ويشرح أستاذنا كيف أن الشعب الألماني استمد من مؤسسات الدولة العريقة تقاليد بناء الوحدة الوطنية، وتحفيز المواطن الألماني على مضاعفة الجهد، وبناء الاقتصاد إلى أن أصبحت اليوم ألمانيا القوة الصناعية الأولى والطاقة التصديرية الأكبر في أوروبا، كما أن اليابان اعتمدت على التقاليد الامبراطورية الراسخة لإعادة إعمار اليابان، وهي اليوم أضخم مصنع للتكنولوجيا في العالم، قال الأستاذ: لو حللنا أيضا التحولات الديمقراطية السلمية التي حدثت في بلدان أوروبا الشرقية لاكتشفنا أن القضاء على الدكتاتوريات الشيوعية جاء على أيدي نخب مستنيرة وصلت إلى دواليب الدولة، واستطاعت تغيير منكر الاستبداد من داخل أجهزة الدولة وليس بتدمير أجهزة الدولة، وكذلك الحال في ثورات الربيع الأميركي اللاتيني (في أميركا الجنوبية) حين انهارت المنظومات العسكرية في السبعينيات فأوصلت الشعوب نخبا ديمقراطية إلى أعلى هرم الدولة، فجاء التغيير من الأعلى مثلما وقع في التشيلي والأرجنتين والبرازيل وفنزويلا وبوليفيا والأوروجواي والبيرو. تعود إلى ذاكرتي هذه النظرية حين أتابع بأسف وخشية ما يقع اليوم في تونس (وبوجه آخر في إيران ومصر والمغرب ثم بشكل مأساوي في العراق وسوريا وليبيا واليمن) من فوضى لا نرى لأنفاقها المدلهمة بصيصا من نور فأتذكر حكمة أستاذنا خاصة في تونس التي كانت بيضة الديك في الربيع العربي، ونجت نسبيا مما سقطت فيه شعوب عربية أخرى من أزمات وصراعات، وطالما ناديت بإقدام الدولة على إنجاز الإصلاحات الكبرى الضرورية لإقلاع الاقتصاد التونسي، وتقلص الفساد وتمكين الشباب من فرص العمل، ولكن موجة الاحتجاجات المتكررة تؤكد أن تلك الإصلاحات لم تتحقق فشعر المواطن أن حاله المعيشي تقهقر عوض أن يتحسن، وضاق الشباب ذرعا باستمرار بطالته فلجأ بعضه إلى الهجرة السرية إلى سواحل إيطاليا على مراكب الموت، كما لجأ جزء منه إلى التطرف وانتهاج العنف. وكنت دائما عندما أقابل أحد المسؤولين النافذين أنصح بإنجاز عملية إعادة النظر في القوانين من أجل تحيينها وملاءمتها لواقع وطني جديد، فالمجلة الجزائية التونسية يعود تاريخها إلى 1913 حيث كانت تحمي مصالح المستعمر وقانون جلب السيارات من الخارج الذي سنه بورقيبة سنة 1960 والمسمى (الإف سي إر) كان منذ ستين عاما يحل المشاكل، وأصبح عبئا ثقيلا على الشعب وعلى الجمارك، وكذلك قانون الأحوال الشخصية الذي سنه بورقيبة لمعالجة معضلات 1956 يجب تقييم إيجابياته وسلبياته وتعديل بعض بنوده لينظم العلاقات الأسرية سنة 2017 على أساس العدل وضمان حقوق الرجل والمرأة والأطفال، ويجب إعادة الاعتبار للقطاع العام بعد أن فقد دوره الريادي في خدمة المواطن في النقل والتموين والصحة والتعليم وقوانين أخرى عديدة أصبحت تكبل المجتمع، وبالطبع أصبح المواطن يلتف عليها بالحيلة التي أصبحت هي القانون! هذا هو ما يسمى الثورة الحقيقية من صلب الدولة حتى لا تقوم انتفاضات ضد الدولة. الإصلاحات الكبرى هي الأمل وعدم تحقيقها سيجر البلاد إلى مناطق المطبات والخضوع لبرنامج صندوق النقد الدولي وشروط الاتحاد الأوروبي وهما جناحان لمنظومة (بريتن وودس)!