النقد الثقافي
العناصر التي شكلت جذرا جوهريا في التكوين المجتمعي القديم لا ينبغي أن تمر على حين ذكرى أو حنين، بل نظن أنها جديرة بأن تستوقف الذهن والمخيلة والذاكرة معا، وأن تفتح مساحة لإعادة استكناه العناصر والسلوكيات التي ارتبطت بها، فضلا عن الحراك المجتمعي الذي كان - من خلالها - يبوصل أساليب حياته ويمنهج خياراته وفقا للمتاح، ليتكيف مع ما يتناسب مع بيئته وجغرافياه ومناخه، وهذا ما تشي به الذاكرة المكانية العمانية القديمة، من واقع علاقتها بالعديد من عناصر اليوميات.

لعل النقد الثقافي في ذهابه بعيدا خلف ظاهر الاشياء سيفتح كوّة صغيرة نحو تلك التفاصيل العامة، للنظر خلف ما تعنيه تلك الصلة مع تلك العناصر، وأحدها هو الفخّار، المادة الطينية التي لا تبوح بسرها لغير المؤمن بها، الذي يستطيع التعاطي معها بمهارة وحذاقة ودقة ملمس، حتى تعطيه الشكل الذي يضعه في مخيلته، إطارا وتفاصيل، وبالتالي توفير مساحة تجمع بعض الجمالية والانتفاع معا، بما يحقق شغف الفن والاستخدام كليهما، والتحاور الذي يستمر طوال فترة حضورها البصري أمام العين.

نشعر أن إعادة التماسّ مع الفخّار، بصفته محفزا على استجلاء الواقع القديم المستبدل بالحياة المعاصرة، وفقا لحتمية التغير في مسار الحياة، سيساعد على فهم البيئة القديمة وإنسانها، بكوننا جزءا ممتدا من ذلك التكوين ولسنا خارجه، على الرغم من تبدل الشكل العام مظهريا لواقع المكان وتفاصيل اليوميات وعناصرها المتجددة.

بيئة التخزين

في البيئة العمانية القديمة، إذا حصرناها زمنيا في خمسينيات القرن الماضي وصولا إلى سبعينياته، سنجد أن التخزين - على عمومه - هو الثقافة السائدة على مستوى المجتمع، سواء كان حٍلا أو ترحالا، بحسب جغرافيا المكان وتضريسه، والتخزين هنا يشمل العديد من الأشياء، ولكن أكثرها أهمية هو ما يتعلق بالمأكل والمشرب، فالأطعمة مأواها التخزين، والمياة كذلك تؤول إلى المصير ذاته، مع اختلاف في المرغوب فيه من واقع التخزين، فإذا كانت أطعمة، فالهدف هو إدامتها صالحة للاستخدام إلى أطول فترة ممكنة، وفي الوقت ذاته هناك أطعمة لا يكتفى بتخزينها فقط، بل لديها نتيجة مزدوجة من وراء التخزين (التمر على سبيل المثال).

من واقع أن البيئة العمانية تجترح علاقة تخزينية، ثم تعتمدها سلوكا مطلقا في عناصر مختلفة، فعليها العمل على توفير الأوعية التي تساعد على تحقق المراد والمنفعة من وراء ما تسعى إليه، لذلك كان الفخّار أحد تلك الأوعية، ولهذا ظهر فيه من لديه القدرة على ابتكار الأواني التي تحقق غاية المجتمع، وتحويل الطين إلى وسيلة مثلى لتحقيق ذلك.

هل كان يدرك العماني القديم أن الفخّار سيحقق بغيته في تأمين بيئة تخزينية تتناسب مع احتياجاته؟

وحدها التجربة التراكمية حققت له معرفة كافية لكي يؤمن بجدوى الفخّار، وليتخذه جزءا من وعيه الفردي والجمعي الذي يتسق مع استقراره ومكان وجوده، ولهذا استمرت الحاجة إلى المادة الطينية والصنعة والصانع معا، متشكلة علاقة انتفاعية مستمرة، ذات جدوى غير محدودة لمرحلته.

يد مرهفة

الفخّار هو طين من نوعية خاصة، يتم جلبه من مناطق قريبة من أماكن صنعه، ويتم تخزينه بكميات جيدة ليتناسب مع مناسيب العرض والطلب، بخاصة إذا كان في موسمه (الجداد / قطاف النخيل)، في مكان الأدوات التي من خلالها يتم تحضيره، تمهيدا لتشكيله وفقا لحاجة الصانع أو الحرفي بحسب توجيه المصطلح ووظيفته.
هناك ثلاثة أعضاء تشترك في تقديم الشكل الفخّاري، هي القدم واليدان والعينان، فالقدم تحرك أداة التدوير في قاعدة تشكيل الطين، واليدان تتحكمان في إخراج الشكل الإنائي الفخّاري منذ البداية وحتى النهاية، والعينان تبصران برهافة الفنان الزوايا والزوائد الفنية التي يدخلها الفخّاري في الشكل الذي يصنعه وفق مسار مخيلته.

لكن لماذا قلنا يد مرهفة؟

نظن أن اليد هي التي ترسم الشكل، ثم تبني الهيكل العام عبر المحافظة على إنماء التجويف بما يتناسب مع الحجم، ثم تتحكم في العنق الذي من خلاله يتم تحديد حجم الفتحة المراد توظيفها بحسب ما سيتم تخزينه في الشكل الفخّاري، ولهذا فإن الإطراف قليلا ربما يجعل المسار يحيد، ويخرج الشكل على غير كماله الذي ينبغي أن يكون عليه.
الوضعية التبادلية لليدين في التحكم تعتبر مرهفة للغاية، فالعارفون بهذا الطين يدركون أنه يحتاج مهارة خاصة، وتشكيله يحتاج إلى نسبة وتناسب بين سرعة تدوير القاعدة من الأسفل من ناحية، وملامسة اليدين للطين من ناحية ثانية، وهذا ما يجعل التركيز والصبر صفتان مهمتان جدا، بل ومهنيتان، من أجل أن يثبت الشكل الفخّاري - بعد يباسه - على أحسن ما تم صنعه، وهو بالتالي سيعبر عن الجودة لدى من سيستخدمه.

نخلة وطين

تتقاسم النخلة مع الطين البيئة التخزينية المناسبة للإنسان العماني القديم، وتعطيه مساحة للاختيار بحسب الوظيفة التخزينية المرتجاة.
النخلة تمنح السعف، ويتم من خلاله تشكيل أدوات تخزينية مختلفة، منها : الخصفة، الضميدة، وهما أداتان لتخزين التمور لفترات طويلة، بينما هناك أوعية أخرى تستخدم للتخزين المؤقت، مثل : المخرافة، الزبيل، القفير، المِجدّ.
الطين يأتي منه الفخار، الذي منه يتم تصنيع أوعية تخزينية مختلفة، ويمكن ذكرها على سبيل المثال :الجرّة، الجحلة، الحِبّ، الكوب، وغيرها من الأوعية.
يتقاسم النخلة والطين التخزين لعناصر مشتركة، فالتمر المكنوز يتم وضعه في (الجرّة والخصفة /الجراب)، لكي يتم استخراج العسل منه، مع فارق في عملية الاستخراج.
ثمة أوعية أخرى ينفرد الفخّار في تقديم نفعه للإنسان العماني، فـ (الحِبّ والجحلة) مثلا، وظيفتهما تأمين الماء البارد، وهي صفة يختص بها الطين بشكل عام، وليس الفخار فحسب، بخاصة أن التضاريس العمانية التي تتسم بالحرارة الشديدة في فصل الصيف، ستحتاج إلى بارد الماء من (الحِبّ) الذي يتم وضعه على الأرض فوق قاعدة دائرية، بغض النظر عن حجمه (لأنه يأتي بأحجام مختلفة، تتدرج من الصغير إلى الكبير)، بينما (الجحلة) يتم تعليقها بحبل، نظرا لمرونة تحريكها وتطويحها لصب الماء منها لغرض الشرب.
هذا التقاسم بين عنصري السعف والطين، من زاوية الوظيفة التخزينية في البيئة العمانية القديمة، يحيلنا إلى النمط التكيفي الذي يمازج بين كون الإنسان مستقرا من ناحية، وكونه مستفيدا من محيطه الجغرافي ومطوعا إياه بما يتناسب مع واقع معيشته في زمنه آنذاك من ناحية ثانية، وهو ما يستدعي - بالضرورة - من زاوية النقد الثقافي، نبش شخصية الإنسان العماني في وعيه الجمعي، وفهم ذكائه الوظيفي في التعاطي مع المكان لتأمين استمراريته وديمومته.

فلكلور

ما نشهده عيانا هو تحول الفخّار- بصفته صناعة قديمة الطراز - إلى وظيفة مفلكرة (من الفلكلور)، كنوع من الاسترجاع الزمني والذهني لمرحلة غائبة عن البصر والمشاهدة العيانية، نظن ان الأجدى - مع الحفاظ على الواجهة الفلكلورية - هو دراسة واقع الشخصية الفردية والجمعية في المجتمع العماني القديم ، تحليلا وتكوينا وتراكما.

خاتمة
يبقى القول إن الفخّار ليس مجرد أدوات استخدمها الإنسان العماني القديم، في ظروف مختلفة، صعبة وقاسية، بل هي شكل من أشكال محددات الشخصية العمانية لا ينبغي القفز عليها، وهذا دور الابحاث والدراسات الثقافية والاجتماعية.

عبدالله الشعيبي